سكت كثير من <<الاصلاحيين>> العرب لسنوات طوال قبل أن يستنفر الضغط الاميركي همتهم <<الاصلاحية>> فتنطلق ألسنتهم لاهجة بمطالب ما باح بها أحد منهم قبلا.

كدنا نخال في غمرة صمتهم في السنوات الماضيات أنهم عن أوضاعنا العربية راضون، حيث لم يقم دليل منهم، ومن نصوصهم ومنابرهم، على انهم متبرمون برماً صريحاً بما تجري عليه أمور الدولة والسلطان في بلادنا العربية. لم نكد نعرف من أسمائهم قبل سنوات إلا بعضاً يسيراً من المقيمين منهم في لندن وباريس وواشنطن ممن عرّف بهم بعض الاعلام الفضائي العربي: من باب الافادة والعلم أحياناً، ثم من باب النكاية بحكوماتهم أحايين اخرى. وما لبثنا أن عرفنا أكثر.

فجأة، تكاثرت أعداد <<الاصلاحيين>> وانحلت عقد ألسنتهم، فانطلقت في حديث مرسل لا يكل ولا يمل عن الاصلاح والتغيير، وما في معنى ذلك، ما إن أطل الضغط الاميركي عنيفاً صاخباً، ومحمولاً على إملاءات ومفردات لم تسلم منها حتى الحكومات العربية التي اعتادت الادارات الاميركية المتعاقبة، منذ عقود، على تصنيفها ضمن الحكومات <<الصديقة>> أو <<الحليفة>>.

ولسبب ليس عسير الادراك على النبهاء، باتت أسماء مجهولة في مجتمعاتها تماماً في عداد المشاهير من <<أبطال الحرية>> ورموزها! وباتت تستقبل، بالحفاوة والتلميع الاعلامي، في عواصم الدول الكبرى في واشنطن ولندن بخاصة ويجري ذكر بعضها على لسان رئيس أميركا ورئيس وزراء بريطانيا أمام مفاجأة الرأي العام العربي وتساؤلاته عمن تكون (تلك الاسماء) في بلاد الله!

نعرف يقيناً أن ثمة صنفاً مختلفاً من الاصلاحيين العرب ليس يسع المرء إلا أن يحتفظ له بعبارات الاعتراف. لم يكن هذا الاخير مجهولاً، ولا انتظر إشارة الضوء الاميركية حتى ينطلق. كان معروفاً لدى مواطنيه، ومحنته حديث الناس. وكان يعي صلة التلازم في خطابه السياسي بين الدعوة الى الاصلاح وبين التزام خط الوطنية الذي يعني ضمن ما يعنيه رفض الانتظام في برنامج سياسي، أو في جدول أعمال سياسي، خارجي. ليس هذا الصنف من الاصلاحيين الوطنيين من يعنينا هنا، وإنما ذاك الذي نحسبه طارئاً على فكرة الاصلاح، راكباً إياها على موجة الاجنبي وحساباته وأهدافه، غير آبه بأن السخرة السياسية التي يقدمها لذلك الاجنبي سترتد آثارها السلبية لا محالة على الوطن!

لا يتوسل هؤلاء <<الاصلاحيون>> بمواطني بلدانهم قوة اجتماعية حاملة لمطالبهم، لأنهم بكل بساطة منفصلون عنهم لا تقوم أواصر أو وشائج تربطهم بهم، ثم لأنهم ثانياً أُنزلوا على مجتمعاتهم، إنزالاً مظلياً، وكيلت إليهم أدوار اجترأوا على النهوض بها في بلدانهم فقط لأنهم مطمئنون الى أن ثمة من يحميهم خارج أوطانهم! أما اذا حصل وتفاعل مع أفكارهم ومطالبهم بعض الرأي العام وندر أن حصل هذا فيزيدهم ذلك قوة على <<قوتهم>> كمحميين دون أن يكون لذلك أثر ما في بناء قدر قلامة ظفر من الشرعية لهم.

ما عادت هذه الكتيبة من <<الاصلاحيين>> العرب تتحرج في القول إنها في سبيل <<الاصلاح>> و<<الديموقراطية>> و<<التغيير>> مستعدة للتعامل مع الشيطان. فقد أحرقت سفنها وأسقطت المحرمات واختارت الاصطفاف مع الاجنبي ضد الوطن بدعوى معارضتها للنظام القائم في بلادها. وليست مشكلة ذلك التعاون مع الشيطان في مجرد القبول بالعمل وفق <<أجندته>> السياسية والحصول على دعمه السياسي والمالي، وإنما هي لدى بعض أولئك <<الاصلاحيين>> دعوة الاجنبي الى التدخل مباشرة سياسياً أو عسكرياً لإزاحة النظم العربية الحاكمة، أي تحقيق <<التغيير>> بواسطة قوة ذلك الاجنبي! ومع أن هذا البعض من <<الاصلاحيين>> قليل، إلا أن مجرد جهره بهذا الكلام الحرام يكفي لبيان حجم الانهيار الذي أصاب نظام القيم السياسية لدى بعض المعارضة في الوطن العربي!

لا يعني هذا البعض من مدّعي الاصلاح والتغيير الديموقراطي أن الاصطفاف مع الاجنبي، والتسليم له بدور إنجاز التغيير بالضغط أو القوة، يعرّض الوطن للاستباحة وقد يعرّضه لفقدان السيادة والاستقلال أو لإسقاط الدولة والكيان لا النظام فحسب كما حصل في العراق، وإنما يعنيه فحسب أن يكون <<شريكاً>>، ولو صغيراً، في النظام الجديد! ولا هو يلتفت الى المعادلة الشاذة التي يشتغل داخلها: يقدم الكثير ويقبل بالقليل! فحين لا يكون للمرء شعور وطني أو حرص على الوطن، فما الذي يمنعه من البيع بأي ثمن؟ وثمة مثل مغربي يقول ما معناه <<ان السارق رابح أياً كان السعر الذي يبيع به مسروقه>>. والوطن مسروق من قِبل هذه الحفنة من المتمسحة زوراً ب<<الاصلاح>>.

المشكلة الاعظم في أن هؤلاء يزوّرون معنى الاصلاحيين حين يختطفون منهم شعار الاصلاح وينصّبون أنفسهم ناطقين باسمه، والحال أن المرء لا يمكن أن يكون إصلاحياً أو ديموقراطياً دون أن يكون وطنياً في المقام الاول. الأهول من ذلك أن هؤلاء يحوّلون النضال الاصلاحي الى عمالة للأجنبي!

مصادر
السفير (لبنان)