تجيء أحداث التفجيرات الأخيرة في لندن، لتنقل الناس إلى أحداث تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، وذلك بكيفية مثيرة ومفعمة بالتساؤل والدهشة، إضافة إلى الشك والغضب والخوف. لا يمكن القول إلا بضرورة إدانة تلك الأحداث على الأقل انطلاقاً من ثلاث وجهات نظر. فالأولى تقوم على أن من قام بها يفتقد الموقف الإنساني, فقتل أناس مدنيين وُجدوا على سبيل المصادفة في مكان التفجير، أمر يمثل بذاته جريمة بحق الإنسانية جمعاء. أما وجهة النظر الثانية فتتحدد في أن اللجوء إلى أسلوب القتل العشوائي إنما هو تشكيك في قدرات المؤسسات الحقوقية المحلية والعالمية على إحقاق الحق ومعاقبة الجناة والمجرمين، وهو بمثابة الدعوة للعودة إلى مراحل ما قبل الدولة والمؤسسات المعنية. وتبقى وجهة النظر الثالثة لإدانة تفجيرات لندن لتقدم نفسها على أنها أمر متوافق مع إيديولوجية مَنْ قام بها من “المسلمين”.

وعبر عودة أولية لوجهة النظر الأخيرة، نلاحظ أن اتهام المسلمين ودينهم الإسلام بذلك إنما هو أمر يمكن إدراجه تحت مقولة أصبحت ذات حضور كثيف وشامل في الإيديولوجيا السياسية، كما في الممارسة السياسية الراهنة، ونعني بذلك أن المصالح تحتاج إلى مسوغات إيديولوجية “دينية معينّة خصوصاً”، كي تظهر مقبولة أمام عامة الناس. فإذا كانت الإيديولوجيا الاشتراكية السوفييتية قد غابت عن الساحة الدولية الغربية، فإن الإيديولوجيا الدينية الإسلامية هي المهيأة لملء الفراغ. والملفت المثير أن الايديولوجيا الدينية الإسلامية، بتوجهاتها واحتمالاتها المتعددة، تحتمل الاعتقاد لدى مجموعات معينة بأنها يمكن أن تكون مرجعية للإرهاب. وهذا بدوره يطرح التساؤل فيما إذا كانت هذه الإيديولوجيا تحفز على قراءة النص الديني على أنحاء متعددة. منها النحو الذي يوظفه في خدمتهم أولئك الذين يلجأون للنفس. ومن حيث الأساس، تظل الفكرة التي طرحها الخليفة الرابع علي بن أبي طالب صحيحة في عصرنا كذلك، بحيث يمكن القول بها في الدراسات المعاصرة المنطلقة من نظرية النص ونظرية الدلالة وغيرهما، وهي أن النص حمّال أوجه. وفي هذا السياق الذي نحن بصدده، يبرز القول التالي الذي يرقى إلى مستوى النص القرآني، وهو أن: «منْ قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً». فهذا القول يمثل نمطاً مهماً حاسماً ضمن النص الديني الإسلامي يمكن التأسيس عليه لموقف رافض لأعمال العنف والإرهاب.

وبالمقابل، فإن قراءة أو قراءات أخرى يمكن أن ترى في قول أو آخر مأخوذ من التراث الديني، مصدراً لتسويغ عملية قتل لأناس من ذلك النمط، من هذا الأخير يبرز مثلاً، الاعتقاد بأن مجتمعا ما - سواء كان ذا طابع إسلامي أو كان غير ذلك - لا يمكن اعتباره كذلك، أي إسلامياً، طالما أنه محكوم من قبل سلطة يُنظر إليها على أنها مارقة. وهنا، يتشعب الموقف إلى شقين، يقوم أولهما على تكفير المجتمع “المارق” كله، في حين يقوم الثاني على تكفير “السلطة” التي يشكك في إسلاميتها. ويظهر السؤال التالي: ما العمل بالنسبة إلى مجتمع “مارق” ولكنه لا يخلو من أفراد ملتزمين بقواعد الدين وشرائعه؟ ها هنا، تقول بعض الأطراف إنه في سبيل الحفاظ على “نقاء الدين” لا بأس من الخلط بين الأفراد “الملتزمين” والمجموعات “المارقة”، بحيث يصبح شرعياً قتل الأفراد، إذا كان وجودهم عائقاً أمام قتل المجموعات.

تلك آراء وتوجهات تطفو على السطح، خصوصا، مع حدوث اضطراب اقتصادي وسياسي ثقافي “غياب العدل والحرية والكرامة” أولاً، ومع هيمنة أطراف خارجية تجد في وجودها مسوغاً للاعتداء على مجتمع بكليته، وهذا هو واقع الحال بالنسبة إلى المجتمعات الإسلامية والعربية الإسلامية. إن نظرة متسرعة إلى ردود الفعل التي تؤدي إليها أعمال العنف والإرهاب القائمة الآن في أكثر من بقعة من العالم، تُرينا الكيفية الخاطئة والزائفة وربما كذلك المقصودة، لمعالجتها: تُعلن الأحكام العرفية، وتشدد الرقابة، وتبرز المناسبة الذهبية لعسكرة المجتمع، ويتفرغ الإعلام بكامله للبحث عن كيفية الوصول إلى الفاعلين القتلة! أما الأسباب الكامنة وراء ذلك، والتي يحرص المعنيون على إخفائها، فتذهب مع الريح.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)