كوكتيل إرهاب بالسطو المسلح بالنكهة العراقية

الطريقة التي تناولت فيها وسائل الاعلام السورية الرسمية حادثة جبل قاسيون تشبه “اللبن الأسود” أو“الخطان المتوازيان المتقاطعان”.

مشكلة التلفزيون السوري في تعامله الاذاعي مع الحادث الأمني الذي وقع مؤخراً على جبل قاسيون في دمشق، لها سبب من اثنين،

فإما أن التلفزيون يعتقد أنه جهاز إعلامي مشهود له بالمصداقية، وعلى هذا الأساس كلامه ثقة لدى جمهوره السوري، ولا يحتاج لأن يعذب نفسه وكوادره بإرسال فريق تصوير لتسجيل مشاهد من أرض الحدث التي لا تبعد أكثر من كيلومترين عن مبنى التلفزيون، وإما أنه يظن بأن السوريين مجموعة من مكفوفي البصر لا يهمهم ما إذا كان الخبر مرفقاً بصورة أم مجرد خبر صوتي!

لا أعرف موقف التلفزيون السوري بالضبط، ولكن لو كانت لي دالة عليه لنصحت إدارته باختيار السبب الثاني، فأن تكون نظرة التلفزيون للسوريين على أنهم مجموعة من مكفوفي البصر، أقرب للمنطق وأكثر مصداقية من نظرته لنفسه على أنه جهاز إعلامي ثقة لدى جمهوره!

في كل الأحوال ومهما كان السبب، فإن التلفزيون السوري بإدارته الجديدة التطويرية التي جيء بها على أساس أنها ستشد المشاهد السوري من أذنه، وتجلسه صاغراً أمام جهاز التلفزيون ليشاهد الشاشة الوطنية، أخفقت في أبسط امتحان لها، حين قررت أن الصورة المرافقة لخبر حول معركة بالرصاص داخل دمشق ليست بأهمية زيارة لرئيس بلدية يقوم بجولة اطلاعية على مدجنة، ويرسل له التلفزيون الكاميرات، وتجرى مقابلات معه، ومع كل من يتواجد في المكان بما فيهم الدجاج والصيصان، وفضّلت هذه الادارة الاستعاضة عن الصورة بإمكانيات مذيعي التلفزيون الصوتية، وتنقلهم بين كل طبقات الصوت من المينور إلى السوبرانو، بحيث أن كل من شاهد نشرات الأخبار السورية هذه الفترة، لفته الأداء المبالغ فيه لمذيعها، وتحديداً وهم يقرؤون خبر معركة جبل قاسيون بين المسلحين ورجال الأمن، وظن هذا المشاهد للوهلة الأولى أنه يشاهد متقدماً لبرنامج “سوبر ستار” يجرب صوته قبل الدخول لمقابلة لجنة اختيار المتسابقين، وليس مذيعاً في نشرة أخبار.

ستجد إدارة التلفزيون بلا شك مبررات كثيرة لإضفاء شرعية ما على إخفاقها الحالي، وربما ستبلغ الوقاحة بمسؤول تلفزيوني حد الظهور على الشاشة بصدر منفوخ، ووجه باسم، ويدين تتحركان يميناً وشمالاً، ليعتبر أن مثل هذا التقصير فتح ابتكاري في عالم التقديم التلفزيوني، باعتبار أن التلفزيون في بحثه عن الابتكار والتطوير، وفي محاولته للمزاوجة بين التراث والمعاصرة، قرر الاستفادة من ظاهرة الحكواتي الشعبي، الذي كان يروي قصص عنترة والزير سالم وسيف بن ذي يزن على رواد المقاهي قبل اختراع التلفزيون، ويؤدي هذه القصص بطريقة تنشط خيال مستمعيه، وتحمسهم وتجعلهم مشاركين في الحدث لا مجرد متلقين له، ولهذا رأى التلفزيون مزاوجة ظاهرة الحكواتي المسرحية التراثية، بمهنة المذيع التلفزيوني المعاصرة، بهدف الوصول إلى اختراع تلفزيوني سوري فريد، اسمه مذيع يقدم خبراً سياسياً بتعبيرات مسرحية، وستعقد بعدها سلسلة من الندوات التلفزيونية على الشاشة السورية لتحلل وتناقش وتقيّم هذا الفتح الإعلامي السوري غير المسبوق، الذي يهدف لترك خيال المشاهد حرّاً، كي يستطيع أن يركب وقائع معركة جبل قاسيون في رأسه بالطريقة التي كان يركب بها خيال مستمع الحكواتي في المقاهي مغامرات عنتره بن شداد، ولا يفرض عليه صورة تمنع عنه فرصة التخيّل والتفكير!

أنا لا أستغرب حدوث ذلك، فالعقل الإعلامي السوري يتجاوز كل خيال، ليس في قدرته على الابتكار، وإنما في قدرته على التبرير، ولكن في حال تمكّن التلفزيون السوري من تبرير استعاضته عن المشهد البصري بالمسمع الاذاعي، كيف سيتمكن من تبرير وقائع معركة جبل قاسيون التي نقلت بعدة روايات، كما لو أنها سيناريوهات افتراضية لحادث سيحدث، لا باعتبارها واقعة حدثت، أو كما لو أنها حادثة جرت قبل أكثر من ألف عام، إلى الدرجة التي أشعرتني أنني أعيش في المدينة المنورة وأسمع روايات متضاربة عن واقعة الجمل، لا في دمشق عام 2005، في زمن لو دهست فيه نملة في جبال تورا بورا بأفغانستان، لنقلت ثلاث محطات تلفزيونية على الأقل خبر الدهس، ملحقةً إياه بسلسلة بيانات وتصريحات لمنظمات حقوقية تدين وتشجب وتندد!

وكيف سيبرر المسؤول الإعلامي السوري عدة متناقضات وردت في الأخبار المتتالية التي نشرت عن معركة جبل قاسيون، فأول خبر عن الحادثة تحدث عن «وقوع عشرات الاصابات في جبل قاسيون، حيث تكون هذه المنطقة مكتظة بالناس»، بينما كان الخبر الثاني الذي يحمل إعلاناً لمصدر رسمي في وزارة الاعلام السورية يؤكد بأنه «كان لحرص القوى الأمنية على حياة المواطنين المتواجدين في المنطقة أكبر الأثر في حصر الاصابات بالمطلوبين وبرجال الأمن، ولم يصب أو يتأذى أي من الاخوة المواطنين في موقع الحادث»، في حين جاء في شهادة العناصر الأمنية الذين شاركوا في العملية بأن «أفراد المجموعة قاموا بإطلاق النار على عناصر الدورية الأمنية وعلى المتنزهين في هذه المنطقة بشكل عشوائي»، فهل يستطيع المسؤول الاعلامي أن يروي لنا القصة الحقيقية لما حدث من إطلاق نار في جبل قاسيون من بين هذه الأخبار الثلاثة، وما إذا كان قد أصيب مواطنون أم لم يصبوا؟ وكيف لفت ودارت هذه الرصاصات التي أطلقت بشكل عشوائي، حول أجساد المواطنين الذين يتواجدون فعلاً بكثافة في هذه المنطقة كي لا تصيبهم، ولتحصر إصاباتها برجال الأمن فقط؟ وهل كانت المجموعة المسلحة تستخدم نوعاً من الرصاص "الذكي" الذي يعرف رجال الأمن من بين كل الناس، ويتوجه إليهم حصراً؟!

ثم كيف سيبرر المسؤول الإعلامي السوري تناقضاً واضحاً في توصيفه للمجموعة المسلحة باعتبارها «مجموعة مطلوبين بجرائم ارهابية وسطو مسلح»، كما لو أنه يتحدث عن “اللبن الأسود” أو “الخطان المتوازيان المتقاطعان”، فمن المعروف أن أية مجموعة ارهابية تعتمد على تمويل غير محدود وسرّي، وهي ليست بحاجة لأن تقوم بعمليات سطو مسلح تشلّح فيها مواطناً محفظته، أو تقتحم منزلاً لتسطو على خزانة مواطنة للحصول على أساورها وأقراطها الذهبية، لتموّل عملياتها الارهابية؟

وأخيراً كيف خطر للمسؤول الاعلامي السوري وهو يصنع خلطة المجموعة الارهابية والسطو المسلح على طريقة بائعي كوكتيل الفواكه، أن يضيف إليها اسم صدام حسين وفدائييه، باكتشافه أن أحد أفراد المجموعة المسلحة كان من مرافقي الرئيس العراقي المخلوع، وأن المجموعة كانت تعتزم تنفيذ عمليات عسكرية في العراق؟ هل مثلاً مد يده إلى الخلاط الذي مزج فيه كوكتيل الارهاب بالسطو المسلح، ولحسه برأس سبابته فوجد أن كوكتيله ينقصه حليب أو قليل السكر، أو يمكن تطعيمه ببعض المنكهات، فأضاف إليه اسم صدام حسين والعراق من قبيل الكرم والسخاء على كوكتيله؟ وألم يسأل نفسه كيف يمكن لرئيس من نوع صدام حسين لا يثق بأشخاص ينتمون إلى أبعد من حدود محافظته “تكريت” أن يوظف في عداد حرسه الخاص أردنياً؟!

كان يمكن لهذه الأسئلة أن تبقى مجال تندر للسوريين في سهراتهم، لو لم يتراجع المسؤول الاعلامي السوري عن خلطته العجيبة، بالطريقة السهلة والسريعة التي صنعها بها، فتم التنازل عن تهمة الارهاب، واستبعد اسم صدام حسين وفدائييه، وعمد المسؤول الإعلامي السوري إلى تطبيق المثل القائل “عذر أقبح من ذنب” بأفضل صورة ممكنة له، فألقى اللوم على زوجة أحد أفراد المجموعة المسلحة، باعتبار أن تصريحاته السابقة كانت بناء على إفادتها «لكن وبعد التدقيق في كلامها بدا أنها لم تكن متزنه»!

من بين كل الأخبار المتناقضة التي سمعتها وقرأتها عما جرى في جبل قاسيون فجر 4/7/2005 أكثر ما أثار دهشتي واستغرابي هي تصريحات المسؤول الاعلامي السوري بوصفه للآخرين بعدم الاتزان!

مصادر
سيريا نيوز (سوريا)