تفصح مؤشرات عديدة عن اختيار سوريا الطريق الصيني للإصلاح. فقد اقر حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في مؤتمره الأخير “اقتصاد السوق” بديلا عن الاشتراكية كما فعل الحزب الشيوعي الصيني، وتخلص المؤتمر من القيادات التي عاصرت الرئيس الراحل حافظ الأسد تماما كما فعل الحزب الشيوعي الصيني، ورفض البعث الضغوط الأمريكية والغربية المطالبة بفتح السوق السورية على مصراعيها ومن دون شروط كما رفض شروطاً مماثلة أدرجت في اتفاقية الشراكة السورية - الأوروبية، ورفض فتح المجال الإعلامي على مصراعيه، وما زال يقاوم الضغوط الدولية حول حقوق الإنسان في سوريا. ولم تتردد السلطات السورية في إغلاق منتدى الأتاسي لأنه سمح بقراءة بيان صادر عن المرشد العام للإخوان المسلمين علي صدر الدين البيانوني في إحدى جلساته ثم أفرج عن أعضاء المنتدى المعتقلين بعد تعهدهم -كما تقول المصادر الرسمية السورية- بعدم تكرار محاولة من هذا النوع.

وتفيد آخر المؤشرات في هذا الصدد بأن الرئيس بشار الأسد بات مقتنعاً بهذه الوجهة، ففي مقابلة صحفية نشرت مؤخرا في ملحق “نيويورك تايمز” قال إن همه الأساسي الإصلاحي هو إطعام السوريين قبل أي شيء آخر، ما يعني أن الإصلاح الاقتصادي يحتل أولوية في خططه على الإصلاحات المدنية والسياسية.

وتُذكّر الممانعة السورية بالممانعة الصينية، فبكين كانت ترفض على الدوام فتح اقتصادها بلا شروط وكانت وما زالت ترفض الاستماع إلى أحاديث حقوق الإنسان في الصين. وكان حكام الصين خلال زياراتهم الخارجية يرفضون الاتهامات والطروحات التي تنعتهم بالديكتاتورية ويعتبرون أن حوادث ساحة “تيان آن مين” قضية داخلية ليس على الأجانب زج أنفسهم فيها. يبقى وجه الشبه الأكبر الذي يجمع بين التجربتين في بداياتهما على الأقل، هو التمسك بالحزب الحاكم وعدم تغيير اسمه. فالصين مازالت تحتفظ بالحزب الشيوعي الصيني على رغم انخراطها في اقتصاد السوق، وسوريا رفضت تغيير اسم حزب البعث العربي الاشتراكي على الرغم من اعتماد اقتصاد السوق بدلا من الاشتراكية، كما سبقت الإشارة.

والمعنى الأقرب للواقع في هذا الخيار السوري مستمد أيضا من التجربة الصينية، فبلد المليار والربع من البشر ما كان بوسعه أن يحقق قفزات سريعة في المجال الاقتصادي تصل بشهادة خبراء الاقتصاد في العالم إلى نسبة نمو تتجاوز ال 10 في المائة إلا عبر ضمان هدوء جبهته الداخلية، وهذا الضمان ما كان ممكناً دون الاحتفاظ بالجهاز الحزبي الذي يضبط هرمية اجتماعية وسياسية وأمنية في البلاد برهنت فعاليتها خلال نصف القرن الماضي على الرغم من كلفتها الأخلاقية العالية في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير. ويخيل لي أن السلطة في سوريا تسير على الرسم نفسه حيال الحزب الحاكم.

ولعل الخيار السوري ليس مستمداً كله من عهد الرئيس الحالي بشار الأسد، إذ ينسب إلى الأسد الأب حرصه الشديد على ضمان ما كان يسميه الأمن الغذائي لسوريا. فقد بينت له تجربة الرئيس المصري الراحل أنور السادات أن حججا من نوع توفير القمح لصنع الخبز اليومي للمصريين كانت فعالة في تبرير السادات لاتفاقات السلام مع “إسرائيل”، أي إما أن يجوع المصريون بسبب حاجتهم للخبز ومقاطعة الدول الأجنبية لهم، وإما أن توقع مصر اتفاقيات سلام منقوصة لكنها تضمن استمرار تدفق الخبز إلى بلاد النيل.

بغض النظر عن صحة أو خطأ الحجة الساداتية، فقد عمد الأسد الأب منذ ذلك الحين إلى تطبيق خطة اقتصادية تتيح توفير القمح من داخل سوريا ودون الحاجة إلى الأسواق الخارجية، وكذا الأمر بالنسبة للأساسيات الغذائية الأخرى، ما يعني أن النظام السوري كان يحسب عناصر المقاومة والممانعة الداخلية منذ الثلث الأخير من القرن الماضي وليس فقط مع بداية العهد الحالي.

ولعل برهان الإصلاح الصيني عن فعاليته كان عبر اجتياح المنتوجات النسيجية الصينية للأسواق العالمية والبدء بتصدير الالكترونيات والسيارات والبقية تأتي ربما. هذا النجاح يغري السوريين أكثر فأكثر بالخيار الصيني ليس فقط لان سوريا هي البلد العربي الأول في الصناعات النسيجية بل لأن الخيار الصيني يتناسب مع الظروف التي تحيط بالنظام السوري، فهذا النظام مبني كما الحكم الصيني على أسس قومية ولديه الجولان المحتل، كما تايوان المنشقة بالنسبة للصين، ويتعرض لمخاطر جمة على حدوده كما هي حال الصين، ناهيك عن أن الإصلاح على الطريقة الغربية يراه البعث السوري مصدراً لخراب شامل على كل صعيد.

ويبقى البعد الآخر للمقارنة متعلقاً بحجم وموقع سوريا مقارنة بالصين التي تحتل مقعدا دائما في مجلس الأمن ولديها مليار مستهلك يسيل لهم لعاب أصحاب الرساميل الغربية ووسائل ردع نووية، أي وسائل ممانعة من العيار الثقيل. في حين تمتلك سوريا موقعا استراتيجيا لا شك بأهميته لكن وسائلها الاستراتيجية اقل أهمية بما لا يقاس، فهي في معظمها تستند إلى براعتها السياسية في التعويق والتسهيل في أزمات الشرق الأوسط، وفي علاقاتها الإقليمية المؤثرة وقدرتها المتوسطة على الممانعة وتحمل الضغوط، وكلها عناصر مؤثرة لكنها مشروطة بتوافر الظروف الدولية والعربية الملائمة.

أغلب الظن أن الحديث عن الطريق الصيني للإصلاح في سوريا كان يبدو مجرد هراء قبل عامين حين كانت الهجمة الكولونيالية الإصلاحية في ذروتها، وكان رأس النظام السوري بين أولوياتها، لكن اليوم ومع شبح الحرب الأهلية الذي يلح على العراق، والفشل الأمريكي الذريع في هذا البلد فضلا عن إصرار مجموعة شنغهاي على سحب القواعد الأمريكية من آسيا الوسطى كل ذلك يوحي باتجاه آخر للريح في الشرق الأوسط، وبالتالي بفرصة سورية أفضل في الرهان على الطريق الصيني للإصلاح. ولعل المجهول الأكبر في هذه السيرورة هو الاقتصاد السوري وقدرته على الإبداع، ذلك بأن الفشل الاقتصادي يمكن أن يحول طريق سوريا الصينية إلى درب للجلجلة.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)