يرى البعض ان الشعب السوري سلطة "سياسية" وأحزاباً ومنظمات مجتمع مدني وهيئات أهلية وأفراداً يعيشون احتقاناً يكاد يصل الى الحد الأقصى، وتنمو درجات هذا الاحتقان يوماً وراء يوم حتى لم يعد الخوف من بلوغه أقصى درجاته ضرباً من الخيال او التخيل او التشاؤم او الوهم.

فالنظام السياسي يشعر بالاستفزاز ويتحسس من أي رأي أو نقد أو ملاحظة يقولها حزب موالٍ او معارض أو فرد أو مثقف او صحافي حتى لو كانت نقداً لمدير تموين في بلدة قصيّة من سوريا. وقد اختلط عليه الأمر فأصبح يعتبر نقد سياساته او ممارساته ضرباً من ضروب معاداة الوطن، خالطا النظام بالوطن، كما فعل الرئيس السادات “وغيره أيضاً” عندما كان يعتبر نقد سياساته عداء صريحاً للوطن، وزادت حساسية النظام تجاه النقد حتى اصبحت حالة مرضية لا تليق بنظام سياسي يواجه مسؤوليات وطنية وقومية داخلية وخارجية كبيرة وخطيرة، تحتاج لرأي الجميع والاستفادة من الجميع وتعاون الجميع لمواجهتها.

ثم صار موقف النظام من النقد مهما كان هذا النقد بناء ووطنياً ومسؤولا يشبه الموقف الامني الذي لا يتجاوز رد فعله إدانة من ينتقد او اعتقاله حتى لو كان منطلقاً من حس وطني عال، او معتدلا لأقصى درجات الاعتدال. ولم يعد مقبولا لدى النظام إلا: إما معنا مهما عملنا أو أخطأنا وإما ضدنا. وهذا بالضبط ما تمارسه الأجهزة الامنية التي لا تؤمن بالرأي الآخر ولا تحترمه وتعتبر رأيها الوحيد الصحيح. وفي ضوء ذلك "تمترس" النظام في خندق خاص به، يرى من خلاله ان أعداءه هم ناقدو النظام وأحزاب المعارضة وتياراتها متجاهلا ان الخطر يحيق بالجميع وهو في كل الحالات لا يأتي من هذه المعارضة.

لدى احزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني تيارات ترى مسبقاً وكرد فعل على قسوة النظام واستئثاره بالسلطة والثروة، أن النظام لا خير فيه ولا أمل منه، وما من طريقة لإصلاحه، مع تأكيدها على أنها لا تريد تغيير النظام والانقلاب عليه بل تناضل لتغيير سياساته، وهكذا وصلها الاحتقان كما وصل الى اهل النظام “وتمترست” بدورها في خندقها الخاص بها، وزاد احتقانها و“شوش” رؤيتها ورفع السور الفاصل بينها وبين النظام، حتى كادت ان ترى ان المسؤولية الوطنية تقع عليها وحدها، في الوقت الذي تحرم فيه النظام من أي مأثرة او نجاح.

زاد الاحتقان إذن هنا وهناك وانتقل بدوره الى المجتمع السوري وأخذ ينخره، وما نحن نشهد ونلمس لمس اليد الاحتقان الديني والمذهبي والطائفي والإثني والإقليمي والاحتقان الناتج عن جميع الموبقات في مجتمعنا حيث تتمركز كل فئة حول نفسها وتتخندق خوفا من الاخرين، وهو خوف مبني على الوهم، استغلته قوى سياسية واقتصادية واجتماعية لتزيد امتيازاتها ولتكرسها حتى لو كان ذلك على حساب الشعب السوري ومستقبله وعيشه المشترك وتعايشه وأمنه وسلامه الاجتماعي.

ان رفض الاعتراف بالحريات والتعددية والحوار من جانب اهل النظام زاد الاحتقان احتقاناً، فلم تعد فئات المجتمع السياسية والدينية والطائفية والإثنية تعرف شيئاً جدياً بعضها عن البعض الآخر، فهي لا تعرف مثلا ماذا يريد الآخر وما هي وجهات نظره وبرامجه وما يصبو اليه، حتى صار الجميع غريباً عن الجميع ويشك الجميع بالجميع والكل ضد الكل، واختلط الحابل بالنابل وكاد السوريون يتحولون فئات ضد فئات ومجموعات ضد مجموعات وأطرافاً ضد اطراف، والجميع يستند على أكداس من الوهم والاستفزاز والحساسية والتهم واليقينات التي لا أساس يقينياً لها، صار كل يستقطب من يمكن استقطابه وكأننا على أبواب يوم الحشر حيث ترى الناس سكارى وما هم بسكارى... “ولكن عذاب الله شديد”.

إن النظام السياسي السوري هو المسؤول الاول عن حالة الاحتقان هذه بسبب منعه الحوار والتضييق على الحريات وإنكاره التعددية وتساهله مع الفساد وانطلاقه من مواقف مسبقة مطلقة تجاه الرأي الآخر وتيارات المعارضة، أقلها إقصاؤها والاستخفاف بها واعتبارها مخطئة في المطلق، وأحياناً اتهامها بأنها لا وطنية ما دامت لا تؤيد سياسة النظام وإجراءاته او تنتقد أخطاءه أو تشير الى مخالفاته وفساد اجهزته وتخلف إداراته، ويبدو لي ان النظام اصبح أكثر الساعين لاستقطاب فئات او قوى وكأنه ليس نظاما لكل السوريين موالين كانوا ام معارضين، فهو ينكر حق بعضهم في المشاركة في وضع السياسات ومراقبة التنفيذ والاشارة الى الاعوجاج والفساد والإفساد، مما أدى الى استقطابات من طرف آخر، وهذه الاستقطابات جميعها عارضة وظرفية ومبنية على اوهام، فالسوريون هم السوريون، يشعرون دائماً بمسؤوليتهم بعضهم تجاه البعض الآخر، وقبول بعضهم البعض الآخر، وفهم بعضهم البعض الآخر، ولعل هذا الاحتقان الذي أوجده ونمّاه أصحاب المصالح والامتيازات والانتهازيون والموتورون والفاسدون والمفسدون هو احتقان عارض ينهار امام اول امتحان.

ان المسؤولية كبيرة وربما كانت مسؤولية تاريخية، وإبقاء الحبل على الغارب قد يوصل الامور الى نهاياتها غير السعيدة، ومن المهم ان نلاحظ ما يجري في العراق وربما في لبنان، وأن نتذكر ان الوحدة الوطنية هي السلاح الأمضى الذي يواجه الصعوبات والضغوط والمخاطر.

ولعل من واجبات النظام السياسي السوري ان يطلق الحريات ويحترم التعددية ويتيح المجال لجميع فئات الشعب السوري السياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية والاثنية ان تتحاور وتفصح عن همومها وتناقشها ويفهم بعضها البعض الآخر وتتفاهم وتؤكد مجدداً ان مرجعيتها الوحيدة المواطنة التي – إن وجدت – تطرد جميع المرجعيات الأخرى وترسلها الى الجحيم، في الوقت الذي يتفهم الجميع حقوق الجميع ويقبلها، في وطن يؤمن بالمساواة والعدالة والحرية والتكافؤ والتعددية لجميع أبنائه، وطن لا يراقب فيه الكل الكل ولا يخوّن الكل الكل ولا تسود فيه العقلية الامنية وأساليبها وحماقات أدواتها وأساليبها.

إن المصاعب الداخلية والضغوط الخارجية التي تواجهها سوريا وحجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق الشعب السوري تقتضي – مما تقتضي – حواراً وطنياً جدياً مسؤولا واعترافاً متبادلا من الأطراف جميعها، وصولا الى مؤتمر وطني ووحدة وطنية هي الوحيدة القادرة على مواجهة صعوبات المرحلة والكفيلة بإزالة الاحتقان والفئوية وتحقيق الفهم المتبادل والجبهة الواحدة المتراصة.

مصادر
النهار (لبنان)