لم تشكل الأزمة التي طرأت على الحدود السورية اللبنانية، من إغلاق معابر تحرك الشاحنات من لبنان إلى سوريا، سوى خطوة أولية على طريق سيكون متعثرا بين البلدين، إذا لم يستفق أهل السياسة فيهما على ترك الماضي خلفهما دون أثر.

و ايا كان التبرير الرسمي المعلن لما جرى في الأيام الستة الماضية، فإن السوريين في شريحتهم العظمى تقبلوا الأمر برحابة غير مفاجئة. كأن هذا التحرك أمنيا كان أم سياسيا أم كليهما يرضي مشاعر الكرامة الوطنية التي جرحت بعمق خلال الأشهر الماضية، بحيث بدت سوريا ومعها أهلها في زاوية باردة معزولة من هذه المنطقة الساخنة.

خلال لقاء “السفير” لمواطنين كثر، خلال فترة شبه الإغلاق التي تعرضت له المعابر السورية إلى لبنان، الواحد تلو الآخر، كان الكثيرون منهم لا يبدون اسفا على محاصيل الدراق، الليمون، الحامض، التفاح والبطاطا التي افسدت تحت الشمس. كان ابسط تعبير يمكن أن ينتج عن مراقب لنشرات الأخبار في مقاهي دمشق وشوارعها “إي شو منعملن..”، و“خرجن الله لا يقيمن”. ثمة تفاهم هذه المرة على مستويات عدة بين الناس وقرار السلطة بريئا من السياسة كان أم لا.

والحقيقة أن أغلبية المواطنين في سوريا ليست مقتنعة ببراءة الإغلاق من الأحداث السياسية التي سبقته، خصوصا وأن أنباء كثيرة تتحدث عن إبلاغ السوريين للطرف اللبناني توقف “الكهرباء المجانية”، و«مطالبتهم بالدفع المباشر للسلف فيما يتعلق بالغاز، و بالسعر المتعارف عليه عالميا».

إذاً سوريا تنفذ سياسة جديدة تجاه لبنان. وتجاه جيرانها الأخرين ايضا «إذ أن ثمة معلومات مشابهة عن معاملة مماثلة للأردن بشأن مياه اليرموك». هذا يشير إلى أمرين. أولا تخلي سوريا عن مبدأ الخسارة المادية والاقتصادية مقابل تغذية مشاعر “التضامن العربي مع الأشقاء العرب”، وثانيا تعميق الإحساس بالمصالح الذاتية أولا “سوريا أولا” .و يمكن رد هذا كله إلى 14 شباط و ما تلاه من أحداث. إذ لم تشهد الكرامة السورية جرحا أكثر عمقا منذ احتلال الجولان في العام 1967. ولهذا السبب جاء رد الفعل مخالفا للتوقعات. ورغم أن مصادر رفيعة المستوى كانت نقلت اخباراً عن تلقي الرئاسة السورية في الفترة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري نصائح بإغلاق الحدود مع لبنان، إلا أن هذا الخيار كان كما يبدو مؤجلا حتى اللحظة التي لا تبقى هناك خيارات أخرى. وقد جاء إغلاق المعابر في وجه الحركة التجارية كدليل على قدرة دمشق في الرد على “التطاول على رموزها وتاريخها الإيجابي في لبنان”، على حد تعبير أحد المسؤولين، وإن كان ذلك بطريقة تؤذي الطرفين في صميم اقتصادهما. أكثر من ذلك تصادر الجمارك السورية حتى ربطة الخبز القادمة من لبنان. ورغم التبرير الأمني لهذه العملية إلا أن ثمة ما يشير إلى رسالة أخرى مفادها أن الليرة السورية من الآن وصاعدا يجب أن تصرف في سورية، وذلك خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الحكايات الكثيرة التي يسردها مواطنون سوريون ودبلوماسيون مقيمون في دمشق عن تعرضهم للإهانة في المتاجر اللبنانية لمجرد كونهم سوريون أو يقيمون في سورية.

ولذا لاقت الإجراءات السورية أثرا إيجابيا لدى المواطن الذي ينتظر منذ سماعه هتافات 14 شباط ردا يعيد له بعض كرامته المهانة، وبرائته المفترضة من الاتهامات المباشرة وغير المباشرة التي لم يتوقف عنها الزعماء والسياسيون اللبنانيون تجاه النظام السياسي في دمشق.

ولكن المهم الآن هو معرفة المخرج من هذا المضيق الخانق الذي تحولت إليه الحدود الواسعة بين البلدين. إن على حكومة فؤاد السنيورة، إن تشكلت قريبا، أن تعمل على ذلك مباشرة، كما على دمشق أن تستقبل السنيورة بدفء، كخطوة أولى.