للصحافي الأميركي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط توماس فريدمان قول مأثور هو: “إنّ كل دولة عربية هي في الحقيقة مشروع حرب أهلية”. وبعيداً عن “النوايا المبطنة” التي قد يقال إنها وراء مثل هذا التحليل، والذي ينطلق من صحافي أميركي عالم بدقائق وأعماق المجتمعات العربية ـ وربما أكثر بكثير من بعض أقرانه العرب ـ فإن التحليل يحملٌ بين جنباته الشيء الكثير من الصحة. فالدولة العربية التسلطية بمعظم تشكيلاتها التحالفية: العسكرية والإقتصادية وكذلك الطائفية/العشائرية، نجحت وبشكل تام، في خلق جو شمولي ملبد، عمدت فيه إلى إقصاء فئات عريضة من شعوبها عن العملية السياسية والمشاركة في حكم وتسيير البلاد،تحت ذرائع ودوافع مختلفة غلفتها غالباً بالشعارت القومية و تنظيرات المصلحة و“الوحدة الوطنية” تلك. ونجحت هذه الأنظمة كذلك،في توريط العديد من نخب وأبناء شرائح وطنية كبيرة في تطبيق سياساتها هذه لتفرز بالتالي طبقة برجوازية/مصالحّية ضيقة لم تتوانى هي الأخرى في تثبيت نظرية “الأقصاء الوطنية” بحق أبناء الشرائح الأخرى، المغايرة في التفكير والتوجه، والعمل على “شرعنة” هذه النظرية والتأكيد عليها دائماً.

ولعلّ هذا ماحصلّ بالضبط في سورية: فثمّة حالة إقصاء وضعتها الدولة الأمنية الشمولية وأكدّت عليها بعض النخب الإجتماعية والعشائرية المرتبطة بها والدائرة في فلكها. ومن هنا يأتي الحديث عن خطورة حزمة البيانات التي صدرّت عن بعض العشائر العربية في منطقة الجزيرة السورية. والتي يقرأ المرء بين طياتها دعوة للتصعيد والتوتر وإستعداداً ما للمنازلة والمواجهة، وهي حالة جد خطيرة خلقتها السلطة القمعية، وروجت لها عبر مناهج وخطط التعليم والتربية ونشر ثقافة التخوين والمؤامرة بين قطاعات الشعب السوري. فهذه البيانات الصادرة عن بعض العشائر العربية الأصلية في منطقة الجزيرة والداخلة في حالات قرابة وصداقة وحسن جيرة مع الشعب الكردي تبدو خطوة جديدة في ميدان التدخل الأهلي الشعبي“وفي أكثر اشكاله بدائية: العشيرة!” في الصراع من أجل الديمقراطية والمجتمع المدني الشفاف،البعيد عن سطوة وسلطة المخابرات، كما يجب أن تكون عليه الحال.

البيانات المشار إليها، تعيد المشكلة الديمقراطية في البلاد،وبجزئيتها الكردية بشكل خاص،إلى المربع الأول الأكثر خطورة،إذ تٌلغي الدولة ومؤسساتها الوطنية،بعدّ أن ألغت الأخيرة جميع أشكال مؤسسات المجتمع المدني ووسائل التعبير الحر المستقلة. ليغدو الحوار بين مجموعات عشائرية تتبارز في نيل رضا الدولة «الأمنية التفكير والتسيير بإمتياز: كما يجب أن يقال دائماً» وفي هذا الجو المشحون،مٌستخدمة بعض العبارات البعثية، ومؤكدة على “ثواليث” تؤكد بدورها على «الوطن،القائد، العلّم»، بدون ذكر كلمة واحدة عن الحقوق والديمقراطية وضرورة الإنفتاح على الشعب، والنتيجة الكارثية التي تنتظر البلاد والعباد إذما إستمرّ الإحتقان الشعبي على صورته الحالية.

حزب البعث العربي الإشتراكي السوري،الذيّ صدعّ رؤوس أبناء الشعب عبر حقب طويلة من ثقافة الدوجما الأحادية بشعارات الوحدة والتحرير،وحشّا أدمغتنا حشواً، ونحن لم نكن نفك الخط بعد،عن الأجزاء المغتصبة في الصومال وأريتريا، ووجوب النضال من أجل تحريرها. يعود ليستخدم طريقته البدائية«والمأخوذة فوتوكوبياً من البعث العراقي» في شحن وتأليب العشائر وإستنهاض غرائزها، والإعتماد عليها قناة للتواصل و“الحوار” مع أبناء الشعب. فاللعبة هي حكومية في الدرجة الأولى،وبشكل أكثر صراحة، هي لعبة الأجهزة الأمنية العاملة الآن وبشكل يٌسابق الزمن “لضبضبة” الأوضاع في مناطق الجزيرة وإطفاء المشاعر الكردية اللاهبة في مدن وقرى المناطق الكردية السورية، وذلكّ بعدّ مرور شهور شهدت إنبعاثاً كردياً فاجأ السلطة كما فاجأ السوريين أيضاً. فلابد إذن من العودة ـ وبشتى الطرق والوسائل ـ بالمارد الكردي إلى القمم السوري الساكن والراكد تماماً منذ أربعة عقود!.

العملية الديمقراطية في البلاد تحتاج لتعاون وتعاضد كل قوى المجتمع السوري،بما فيها حتماً أبناء العشائر العربية والكردية في المنطقة: والذين ينضوون في أحزاب وطنية ومنظمات اهلية“غير مرخصة طبعاً” تناضل من أجل نيل حقوق المواطنين وإنهاء حالات الفساد والمحسوبية والهدر والفقر والعسف السياسي وضيعان الحقوق التي يعيشونها منذ سطو البعث على الحكم في سورية. لايمكن بأي حال من الأحوال جر الإستقرار على الحالة الكردية في سورية بدون حل المشاكل التي يعاني منها الأكراد.فهناك مشاكل حقيقية مالم يتم حلها فوراً ستؤدي إلى بروز قلاقل أكثر خطورة مما كان في المستقبل،ومعّ سياسة الأجهزة الأمنية والتصعيد الداخلي والأقليمي من قبل النظام الذي يستهدف الشعب الكردي،تلوح في الأفق ملامح إضطراب لفترة قادمة قد تؤدي إلى إنفجار وصدام أهلي مدمر لم يشهد التاريخ السوري من قبل، ولم تعرفه العلاقات العربية ـ الكردية طيلة مئات السنين من التداخل والتجاور بين الشعبين.

الحالة الديمقراطية في البلاد لاتتجزأ،والأفضل لكل الأطراف الإتفاق على خطوط وطنية عريضة يتمٌ فيها رسم الحلول المناسبة لقضايا الحريات والمشاركة في السلطة ورفع الظلم عن كاهل مجمل الشعب السوري وفي مقدمتهم الأكراد،الذين تعرضوا لظلم كبير منذ صعود حزب البعث،مما أفرز بالمقابل بعض ردود الفعل هنا وهناك،والتي لاينبغي أبداً،وبأي حال من الأحول،البناء عليها بردود فعل مضادة وحالات تصعيد خطرة لايعلم سوى الله نتائجها وأبعادها...

مصادر
إيلاف (المملكة المتحدة)