اذا استغنينا عن الدقة العلمية يمكن تقسيم الطبقات الاجتماعية في الصيف الى اثنتين: الطبقة المتجولة التي لا يرتاح المنتسبون اليها دقيقة في مكان واحد، من نزهة الى شاطئ الى مهرجان الى بيت صيفي الى خارج البلاد (مع إخراج لندن من القائمة لهذا الصيف)، ولا يشبع اعضاؤها من استهلاك الأمكنة. والطبقة المراوحة في مكانها لا يغير الصيف شيئاً من جدولها اليومي سوى لعن الحر وانتظار قدوم المساء وضجيج الأبناء والبنات في كل زاوية ومشاكلهم وطلباتهم التي لا تنتهي طوال شهرين من دون مدرسة. ومهما كان التقسيم ليس بوسع أحد أن يغفل كثرة المهرجانات الفنية السياحية، إذ يكاد يكون لكل مدينة مهرجانها الصيفي في الدول التي تستقبل سواحاً يحل عليهم حب الفن والموسيقى والتجمهر في المساء، أما في الأحياء التي يرابط سكانها في أماكنهم في الصيف فتحول الأعراس الى مهرجانات محلية بأبواق سماعات سلطت على الاتجاهات كافة، بحيث لا تحرم اتجاهاً من ضجيجها. فصل الصيف موسم للضوضاء.

ويبدو انه في أوروبا واليابان والولايات المتحدة وكندا تشعبت عن الطبقة الجوالة طبقة لا تريد الرقص والتجمهر هكذا بلا سبب، بل تفضل قضية لكل رقصة ومهرجان. هذه هي تقليعة هذا الصيف الذي شهد مهرجانات روك نظمت للتضامن مع أفريقيا كرر فيها بوب غيلدوف، مغني الروك الإيرلندي السابق، الذي احتكر مهنة لرجل واحد، تجربة ما قبل عشرين عاماً التي جمعت فيها كونسيرتات الروك المتزامنة مئة وخمسين مليون دولار لإغاثة ضحايا المجاعة في اثيوبيا. مع بعض الفروق بين المهرجانين: فقد ساءت الاوضاع في افريقيا منذ ذلك الوقت، وغيلدوف ركع في هذه الأثناء بين أيدي الملكة ورسم فارسا، واصبح بحاجة الى دليل على نجاعة مشروعه أمام المتشككين والنقاد وذلك باظهار امرأة على المنصة ظهرت صورها قبل عشرين عاماً كطفلة جائعة، وها هي الآن فتاة جميلة (يجب ان تكون جميلة لتظهر في كونسيرت)، ومع الفرق أن المنظمين قد وضعوا هذا العام ايديهم بيد توني بلير للضغط على بقية دول الثماني الكبار لإلغاء ديون الدول الافريقية ومضاعفة الدعم لأفريقيا حتى عام 2010.

لم تقرر الدول الثماني شيئاً جوهرياً جديداً سوى التعهد بمضاعفة الدعم، أما الديون فلم تلغ. وقد حثّها المضيف بلير مستخدماً قوته المعنوية كمضيف وكخارج من تفجيرات «ركَّت» العاصمة لندن (التعبير ليس سخرية من الكاتب، لا سمح الله، بل هو محاولة لتعريب التعبير عديم الذوق الذي استخدمه بعض الصحف الاميركية والانكليزية من وحي مهرجانات الروك لوصف التفجيرات three explosions rocked London). وبدا من إصرار بلير على الزعماء أن يوقعوا على تعهداتهم علناً أنه لا يثق بتنفيذ هذه التعهدات. وجميعهم يعرفون أن قسماً كبيراً من أموال الدعم لا يصل الى هدفه، ليس فقط بسبب فساد أنظمة الدول الافريقية، وهي تقزم فساد بقية دول العالم الثالث، بل لأن قسماً من المعونات سيختصر ويقلص في اللجان البرلمانية والحكومية بعد إعلان الرئيس في القمة، أو يمول شركات أغذية وأدوية في الدولة الداعمة بأسعار مبالغ فيها، ويصرف قسم آخر منه على البيروقراطية المحلية والصناديق الوسيطة والخبراء وعلى المنظمات والجمعيات في البلد الداعم ذاته، توازيها زميلاتها الافريقيات وهكذا...

كي يتجنب الالتزام بارقام دعم جديدة تميز بوش بإعلانه يوم 30 حزيران (يونيو) مستبقاً قمة الثماني عن دعم إضافي لأفريقيا يصل الى 1.7 بليون دولار لافريقيا للسنوات الخمس المقبلة، منه 1.2 بليون لمكافحة الملاريا. وهو مرض يمكن معالجته بدولار واحد لوجبة الدواء المتطور ولا يفترض أن يميت المرض أحداً، ومع ذلك يقتل مليون انسان سنوياً، 90 في المئة منهم في افريقيا. ويبدو أن هذا تقدير متواضع، إذ تنافسه تقديرات تصل الى ثلاثة ملايين حالة وفاة في العام بسبب الملاريا. نحن نعيش في عالم لا يستطيع ان يحصي عدد موتى الملاريا، هل هو مليون أم ثلاثة ملايين انسان، ولكن الإرهاب هو قضيته الرئيسية. ويمر تصريح بوش احتفالياً وتحتفي به صحف اليوم التالي ويحييه منظمو مهرجانات الروك الى ان توضح جمعيات أميركية ان ما سيدفع من هذا المبلغ هذا العام بالكاد يغطي تقليص أموال دعم مكافحة الأوبئة الذي سبقه في موازنة هذا العام.

وهنا أيضاً يتبين أن مرض الملاريا يزداد فتكاً. هنالك 500 مليون حالة ملاريا في كل عام معطى. وهذا تدهور كبير مقارنة بتقديرات WHO عن 210 ملايين حالة. (لفتاً للانتباه ومنعاً للالتباس الممكن الحدوث في هذه المرحلة التاريخية نقول إن WHO هنا ليست فرقة الروك الرائعة والشهيرة من السبعينيات والتي شفع ظهور نجماها ونجوم «بينك فلويد» للمهرجانات بل هي اختصار لـWORLD HEALTH ORGANIZATION منظمة الصحة العالمية). في كل اثنتي عشرة ثانية يموت طفل في أفريقيا من الملاريا، وفي كل ثلاث ثوان يموت طفل منها ومن سوء التغذية والتيبركولوزس والايدز وغيرها.

وقد وجدت مهرجانات الروك طريقة لا تزيد ذوقاً على تعبير «ركَّت لندن» أعلاه، إذا قادها نجم السينما ويل سميث من فيلادلفيا وهو يصرخ: «انتم في سيركوس مكسيموس هل تسمعون بوابة براندنبورغ؟»، في إشارة الى تزامن المهرجانات الصيفية بين برلين وروما، مرشداً الحضور كيف «يطقعون» بفرك الاصبع كل ثلاث ثوان كناية عن موت طفل في أفريقيا.

لم أفهم ما هو الرمز؟ هل يرتاح ضمير الانسان اكثر اذا «طقع» بأصابعه متذكراً بهذه الحركة السخيفة المبتذلة موت طفل في افريقيا، هل ينام أفضل؟ وهل سيتذكر ذلك عندما يصخب الروك في الثانية التي تليها؟ في الحقيقة لم افهم. تداخلت المشهدية والنجومية والرقص مع استخدام الموت كإيقاع، وليس بهدف شرير، بل هكذا من اجل الاثارة. عندما غنى بونو من فرقة «يو تو» والتون جون ومادونا و»بينك فلويد» و»كولدبلاي» وفرقة «ذي هو» وبول مكارتني ونيل يونغ و «آر إي ام» وغيرهم ظهرت على الشاشات الكبيرة وراء المنصة تلك الصور التي تحولت الى مرادف لكلمة أفريقيا في الثقافة الجماهيرية الغربية: اطفال منفوخو البطون تحملهم أمهات جفت أثداؤهن يطردن عنهم الذباب بما تبقى من قوة. فقط في الثقافة الجماهيرية الاستهلاكية يمكن تخيل الرقص على خلفية مثل هذا الديكور... ويبقى طبعاً نقاش اللياقة السياسية و «البوليتكلي كوريكت» بالنقد التافه لشحّة تمثيل المغنين الافارقة على المنصات... كما يدور نقاش لا ينتهي في الإعلام هل أتى الشباب للرقص والروك فقط أم من أجل الرسالة التي تحملها المهرجانات (ما الفرق طالما النتيجة واحدة؟). ولم تخل صحيفة من استطلاع وإجابات على لسان شباب وشابات بأسمائهم: هذا يقول إنه جاء من أجل الأغاني فقط، وتلك تقول انها جاءت من أجل الرسالة التي تحملها المهرجانات، وآخر يقول إنه جاء قليلاً من أجل هذا وقليلاً من أجل تلك (عاش الاعتدال والحلول الوسط). المجاعة والفقر والمرض كديكور لمهرجانات «لايف ايد» و»لايف ايت»، وهي بدورها ديكور لقمة مجموعة الثماني.

اختلط النجوم على المنصات، المغنون مع نيلسون مانديلا وبيل غيتس وكوفي أنان (الذي اعتبر أن المهرجانات الثمانية، «لايف ايت»، هي الامم المتحدة الحقيقية... معه حق كما يبدو). ويمكن من بين المديح الذاتي والاكتفاء الذاتي واستخدام مصطلحات الثقافة الاستهلاكية نفسها في وصف الحدث: «أعظم كونسيرت في التاريخ»، «أضخم عرض في العالم» العثور على بعض معالم ايديولوجيا غير مكتوبة ولا ممنهجة لهذه الأحداث. ولكنها تقع في صلب السياسات الراهنة وليس في نقدها. يقول بيل غيتس مثلاً من على المنصة انه: «اذا شخّصت المشكلة للناس وأشرت الى الحل، فإنهم سيقومون بما يلزم». أي أنه ما نقص حتى الآن في السياسة العالمية ليس قيم العدالة والانصاف وغيرها، بل شخص مثله يشير للساسة بما عليهم فعله. اجعل الزعماء الثمانية يرون ما هو صحيح وسيفعلونه. وكأنه وغيلدوف قد نسقا المقولات، افتتح الأخير المهرجانات بقوله إنه يؤمن «ان ثمانية رجال في غرفة يستطيعون ان يغيروا العالم». وكل ما يلزم هو تبشيرهم بما هو صحيح بطقع الأصابع مثلاً. ولو ثابرت في ذلك فسيهز الثمانية خصرهم على اللحن فاعلين ما هو صحيح.

ومن معالم الايديولوجيا الجديدة ان جون ميجر آخر من ترأس حكومة بريطانيا من المحافظين طوال سبعة أعوام قبل مرحلة بلير، يكتب في «ذي غارديان» مؤيداً لدعم أفريقيا من جانب الدولة، ورافضاً ترك الفقر هناك لفعل قوانين السوق، ومطلقاً العنان لضميره ليحاسبه علناً في مقولات من نوع: صحيح أن الموضوع لم يكن مطروحاً وأن وضع البلد الاقتصادي لم يكن يسمح بدعم أكبر، وأنه كان مشغولاً بأمور عدة، إلا أنه مع ذلك كان بوسعه أن يفعل أكثر من أجل افريقيا. (جون ميجر، كنت مهتماً ولكنني لم افعل كفاية، «ذي غارديان» 6 تموز/ يوليو 2005. انتبه أن استخدام السياسيين لجمل مثل فعلنا ولكننا لم نفعل كفاية هو طريقة للظهور بمظهر النقد الذاتي من دون نقد ذاتي فعلي). ولا استبعد والحالة هذه أن يكون احدهم قد لمح جون ميجر في كونسيرت الروك في «الهايد بارك» ولم يتعرف عليه أو لم يصدق ما رأى.

يبدو انه بموجب الايديولوجيا الجديدة لم يعد هنالك أشرار في العالم، ولا حتى في سياق فقر افريقيا، إلا الحركات الاسلامية الاصولية. وتؤكد الأخيرة في تفجيراتها على هذا المزاج غير المنصوص، عندما تقتحم غزل الكونسيرتات الاضخم مع الدول الاعظم في التضامن مع افريقيا بتفجيرات إرهابية في لندن يصرح بعدها مكافح الملاريا والارهاب، الرئيس بوش، ما يأتي: «لا يمكن ان يكون التضاد CONTRAST أوضح بين نيات وقلوب أولئك المهتمين بحقوق وحرية الانسان وأولئك الذين يقتلون». هكذا أتاحت التفجيرات الفرصة من جديد لخلق هذا الانسجام والاكتفاء الذاتي والاطراء الذاتي داخل الثقافة ذاتها في تضامن مع ضحية مطلقة مجردة عاجزة لا تستطيع إلا أن تلعب دور الضحية مثل افريقيا، وفي تضاد مع ثقافة الارهاب.

من جهة، لدينا الضحية المطلقة الى درجة لا تثير الا الشفقة، والشفقة تستهلك في تضامن بطقع الاصابع، وذلك اضعف الايمان. ومن جهة أخرى ينتصب «الارهاب وثقافة القتل» بغض النظر عما يقوله بلير حول عدم تجريم المسلمين، وفي المكان الطبيعي في الوسط، العالم الحقيقي «الأمم المتحدة الحقيقية» المتضامنة العاقلة التي تفعل الشيء الصحيح اذا تم تشخيصه.

مقابل ايديولوجية تقسم العالم الى أخيار وأشرار يختفي الأشرار من عالم هذه الايديولوجية الجديدة، ولا يظهرون إلا إذا اقتحموه اقتحاماً من خارجه. كما تختفي الحاجة الى تشخيص السياسات الشريرة أو ذات النتائج الشريرة ومعارضتها.

في حمى القمم والمشهدية القممية وقمة المهرجانات في عالم هو عبارة عن ستاد كبير من أضخم عرض روك الى اضخم قمة رؤساء الى احتفال بالحصول على حق تنظيم استعراض الاولمبياد الى دراما التفجيرات يبتعد الناس عن تعقيدات مثل تشخيص السياسات ونقدها. ويتم الاحتفاء بمقاربة بيل غيتس العملية وتشخيصه لضرورة شراء «ناموسية» (شبكة ضد البعوض) لكل سرير في افريقيا كتشخيص سهل وحل أسهل للوقاية من الملاريا، ويفضل ان يكون التضامن أيضاً متبلاً بوجبات من الاثارة، واستعراضياً يشارك فيه نجوم كي لا يكون التضامن مملاً.

ولو ابتعدنا قليلاً عن هذه الحمى الى أرقام بسيطة يكررها كل سياسي من المصادر نفسها (مثلاً موقع الايكونومست: غلوبال اجندا، 7 تموز 2005) لوجدنا بسهولة تفوق طقع ثلاث اصابع أن 2.8 بليون انسان في العالم، أي نصف سكان الدول المسماة نامية، أو نايمة يتوقف على زاوية النظر، يعيش على أقل من دولارين في اليوم، وان نصف هؤلاء يعيش على أقل من دولار في اليوم، وبمفهوم التسول لو وصل كل دولار تتبرع به الدول العظمى لدول أجنبية لوصلنا الى خمسين يوم في السنة بمعدل دولار في اليوم لبليون واحد أو 12.5 يوم في السنة تقريباً بمعدل دولارين لبليونين. هذا إذا وصلت كل المساعدات التي تقدمها الدول الغربية الى كل الدول الأجنبية والبالغة خمسين بليون دولار الى افريقيا وحدها، هذا اذا وصل المبلغ كاملاً الى كل مواطن افريقي. وأي من هذا لن يحصل بالطبع، ولكن هذا منطق التسول والاحسان كما يتخيله بعض الناس.

وكي «نركّ» العقول قليلاً نقول إنه في مقابل خمسين بليون دولار تقدمها الدول الثماني كمساعدات وراء البحار تقدم دول أوروبا وأميركا الشمالية مبلغ ثلاثمئة وخمسين بليون دولار للمزارعين في هذه الدول نفسها لحماية منتوجاتهم من الصادرات الزراعية من الدول النامية، وذلك بعكس منطق قوانين السوق ذاتها التي يبشر بها صندوق النقد الدولي في هذه الدول النامية ذاتها. ويؤدي ذلك بالطبع الى تخريب الزراعة في هذه الدول والى جعل الفقر بنيوياً ويطرح التسول بدل الانتاج الزراعي. لو توقفوا عن صرف هذه الثلاثمئة وخمسين بليون ومن دون انفاق دولار واحد اضافي، سيتحسن اقتصاد قسم كبير من دول العالم الثالث ومنها افريقيا.

لا يوجد أخيار وأشرار. حسناً. ولكن من سيتعامل نقدياً مع السياسات الشريرة أو ذات النتائج الشريرة؟

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)