لحظة <<الانسحاب>> الإسرائيلي من غزة “إذا حصل” ستكون مفصلية. ولعل الاشتباكات في القطاع، بين الفلسطينيين، ذات صلة بوجود مشروعين لكيفية <<إخراج>> هذا الانسحاب.

يريد أرييل شارون، الذي يواجه ضغطاً عن يمينه، تصوير فك الارتباط من جانب واحد كأنه فعل طوعي جاء ثمرة انتصار أمني يؤهله، بعد تدجين الفلسطينيين، إلى المضي في مشروعه حيال الضفة الغربية وإقفال أي باب في وجه التسوية النهائية.

ويريد المقاومون الفلسطينيون تصوير الخروج كأنه انكفاء تحت الضغط، وهروب من المواجهة، وإعلان عجز عن تحمّل كلفة الاحتلال، الأمر الذي يؤمّن <<صلة وصل>> نضالية مفتوحة الأفق على تكرار المشهد نفسه في مدن الضفة.

من الطبيعي، والحالة هذه، أن يسعى شارون إلى تأمين الانسحاب الهادئ وبعد أن تكون قواته أطلقت الطلقة الأخيرة أي، عملياً، أكدت أنها صاحبة الكلمة الأخيرة في النزاع. وفي المقابل سيحاول المقاومون أن يبدو الأمر كأنه هرولة تتم في ظل إطلاق النار على الجنود على أن يلي ذلك الاحتفال بتحرير الأرض من دون أي مقابل.
يريد شارون تجنب كابوس أيار 2000 في جنوب لبنان. يريد المقاومون تقديم عرض ثان عن تلك اللحظة النادرة.

لهذا السبب، لا لغيره، حاولت إسرائيل التنصل من التزاماتها كلها، ولم يفِ رئيس وزرائها بالوعود التي قطعها. أكثر من ذلك جرى تصعيد متعمّد للوضع لجهة الاعتقال، والاقتحامات، والاغتيالات، والتجريف، وتشديد القبضة. ولهذا السبب أيضاً ضبط شارون التنسيق مع السلطة الوطنية عند حده الأقصى وفضّل، قدر المستطاع، بحث أمور مع الجانب المصري. ففي رأيه أنه لو كان للتنسيق مكان لكان الأفضل الذهاب، مباشرة، نحو خريطة الطريق. إلا أنه، إذ يرفض أي تعاون، فهو إنما يرفض <<التبادلية>> “جوهر <<الخريطة>>”، ويرفض الالتزام بمواعيد محددة، ويريد لتجربة غزة أن تكون الأخيرة بحيث ينصرف إلى القضم الزاحف للضفة وصولاً إلى ما يبتغيه من حل مؤقت مديد.

تقف السلطة الوطنية، إذاً، في موقع صعب بين خطتين. فهي، نتيجة ارتباطاتها والوعي الخاص بقيادتها، مضطرة إلى أن تلبي بعض شروط <<الانسحاب الهادئ>>. غير أنها، نتيجة التزاماتها وتقديرها للأهداف الإسرائيلية، تدرك تماماً أن المتاعب الكبرى مع شارون ستبدأ فور الجلاء عن القطاع.

وترتبط السلطة باتفاقات مع جانبين متناقضين. فهي مضطرة، حيال شارون، وحيال بعض العرب والعالم كله، إلى التصرف بمسؤولية تسهّل تحقيق هذا <<الإنجاز>> الذي يحتاج إليه كثيرون، كما هي مضطرة، حيال الفصائل الفلسطينية، إلى امتلاك التبريرات الكافية التي تقنعها ب<<التهدئة>>. ولقد كان يمكن أن يكون ذلك ممكناً لولا تكاثر الاستفزازات الإسرائيلية وتحوّلها إلى سياسة منهجية.
إن السلطة مضطرة، تكتيكياً، إلى <<التهدئة>>، ما أرغمها على وضع نفسها في تنافر مع الفصائل، ولكنها تدرك أنها، استراتيجياً، مضطرة إلى التصلب بما يضعها، إذا تمسكت بالحد الأدنى الوطني المقبول، في مواجهة إسرائيل.

لذا نلاحظ أن محمود عباس يوزع الاتهامات ولو أنه <<يشطح>> أحياناً فتعلو نبرته حيال قومه أكثر مما تعلو حيال <<العدو>>. ولعل الرجل بات مدركاً بعد الاجتماعين الفاشلين مع كل من شارون وجورج بوش أن الخيارات ضيقة أمامه وأن المخرج الوحيد الذي يملكه هو أن تمر الأيام الفاصلة عن الانسحاب بأكبر قدر ممكن من الهدوء.

غير أن الجانب الإسرائيلي الذي يتصرف كأن الفصائل هي عدو اليوم ولكنها مع السلطة الوطنية عدو الغد القريب، ليس في وارد تسهيل الأمور على الفلسطينيين. ولذا فإنه يتعمّد الخرق اليومي للهدنة مستهدفاً <<الراديكاليين>> طالباً من <<الواقعيين>> أن يكونوا
<<واقعيين>> حياله فقط وأن يتخذوا خطاً جذرياً في التصدي للمزاج الشعبي العام لديهم.

ويستند منطق الرد، لدى كل طرف فلسطيني، إلى السلوك الإسرائيلي بالتقدير المعطى لمعنى الخطوة الانفرادية. فمن يرَ فيها قدراً كبيراً من <<الاختيار>> يجد نفسه مسوقاً إلى طلب الروية. ومن يرَ فيها قدراً كبيراً من <<الاضطرار>> يجد نفسه مسوقاً إلى <<العين بالعين>>. ومن يرَ فيها ثمرة من ثمرات التفاوض أو الاستعداد له يطالب بأن يمر الحدث مراهناً على أن العوامل التي أوجبت هذا التفاوض ستلعب دورها في ما يخص الضفة. ومن يرَ فيها ثمرة من ثمرات المقاومة يصر على الاستمرار فيها معتبراً أن ما أثبت جدواه في غزة سيثبت جدواه، ولو بكلفة أعلى، في الضفة.

أضف إلى ذلك أن الصراع حول المشهد عشية الانسحاب موصول بشعارات ما بعد هذا الانسحاب. فإسرائيل ستعمد إلى الضغط لنزع <<السلاح غير الشرعي>> ول<<تفكيك المنظمات الإرهابية>>، وسيرد المسلحون بأنه لا أحد يتخلى عن الأداة التي أمّنت نصراً خاصة أن النوايا الشارونية حيال الضفة معلنة.

يمكن، لمراقب لبناني، القول إن الانسحاب الإسرائيلي من غزة فيه بعض من الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. فهو إذ يتم تحت ضغط مؤكد من جانب المقاومة، يسعى إلى التخلي عن ورقة من أجل السعي نحو حماية امتلاكه ورقة أخرى قد تعنيه أكثر. ولذا فإن التعاطي معه لا يجوز له الارتكاز على تحليل مبسط ينهض على ثنائية إما التفاوض وإما السلاح. إن الخروج من هذه الثنائية هو المدخل الإلزامي للتعاطي مع أي واقع مستجد إذا تمكّن شارون من الانفكاء. غير أن فهم المخاطر الكامنة في هذه الثنائية هو الشرط الضروري من أجل إنهاء أي إشكال يهدد الوضع الفلسطيني الداخلي.

إن في إمكان الفلسطينيين إنتاج الصيغة التي تجعل استعادتهم لغزة انتصاراً لا يغلق باب المقاومة ولا يلغي احتمالات التفاوض، أي لا يفصل القطاع المحرر عن القضية الوطنية ولا يتخلى طوعاً عن أي أداة من أدوات المواجهة المفتوحة.

مصادر
السفير (لبنان)