يسمع اللبنانيون هذه الايام كلاما كثيرا من النوع الحق الذي يراد به باطل. ويشوشهم ذلك وخصوصا اذا كان صادرا عن قيادات وزعامات ومرجعيات يثقون بها او يحبونها واذا كانوا من الذين يقف عقلهم وتجربتهم وراء انتماءاتهم وولاءاتهم السياسية لا عاطفتهم فقط. ويحيرهم ويضاعف من قلقهم ليس على الحاضر فحسب بل على المستقبل، علما ان هذا القلق لم يفارقهم يوما سواء اثناء الحروب التي دمرت بلادهم وحولت مجتمعاتهم مجتمعات او بالاحرى كيانات اما طائفية واما مذهبية او اثناء مرحلة “السلم الاهلي” التي اعقبتها رغم الغياب الفعلي لهذا "السلم" عنها او اثناء المرحلة الانتقالية والتأسيسية التي تعيشها البلاد راهنا.

هل من عينات على الكلام المشار اليه اعلاه؟

العينات كثيرة ابرزها الآتي:

-1 اتهام الاجهزة الامنية بالتقصير في المرحلة الثالثة الراهنة والقاء مسؤولية زعزعة الاستقرار الامني بانفجارات وتفجيرات واغتيالات بلغ عددها 11 خلال عشرة اشهر عليها وفي الوقت نفسه على السلطة السياسية بل الحكومية التي يتولى حقائب الامن والعدل فيها اناس محسوبون على المطالبين بالتغيير اي تغيير الماضي بشقيه الداخلي والاقليمي، هذا الاتهام صحيح نظريا لكنه لا يصمد عمليا لاسباب كثيرة ابرزها اثنان. الاول، عدم تمكين بعض السلطة الحكومة “الميقاتية المستقيلة الان” من تعيين قادة اصيلين للاجهزة الامنية بعد اقالة قادة بعضها. ودور الرأس في اجهزة كهذه مقرر وحاسم على ما هو معروف. فضلا عن ان الفشل في ابدالهم بمن هو مثلهم من حيث الكفاءة يعطي الانطباع للمرؤوسين ان الامور لم تحسم كليا. وطبيعي ان يؤدي ذلك الى الارتباك والخوف. اما السبب الثاني فهو ان اجهزة الامن اللبناني ارتبطت وعلى مدى 15 سنة على الاقل باجهزة الامن السوري بتوافق السلطات في كل من بيروت ودمشق "وتنفيذا لاتفاقات ومعاهدات وطبيعي ان تكون شبكات هذه الاجهزة من خط محدد وان يعطلها التغيير الجزئي الحاصل في الامن وفي السياسة فتمتنع عن العمل او تفقد القدرة على العمل لاسباب كثيرة.

-2 القول ان رئيس الجمهورية العماد اميل لحود يطبق الدستور في موضوع تأليف الحكومة. فالدستور نص على ان تأليف الحكومة واصدار مرسومها يتمان بالاتفاق بينه وبين الرئيس المكلف. ويجعله ذلك شريكا فعليا في التأليف لا مجرد موقع لمرسوم التأليف كما يريد البعض. والدستور نص ايضا على ان اصول مهمات الرئيس الاول حماية الوفاق الوطني الذي هو الاساس من خلال رفض اي مشروعية لكل ما يناقض العيش المشترك. هذان القولان صحيحان. لكن الرئيس لحود لم يمارسهما على النحو الذي يفعل حاليا منذ توليه رئاسة الدولة قبل سنوات ست وبضعة اشهر. فالتكليف والتأليف كانا يتمان عمليا وليس نظريا على غير يده اي على يد جهة معروفة. ولم يعترض على ذلك علما انه كان خرقا للدستور ومقتضيات الوفاق الوطني او العيش المشترك الفعلي وليس الشكلي لم تكن دائما محترمة. والطريقة التي عالج بها شؤون الحكم والحكومة على الاقل اثناء ولايته الاصلية جعتله يظهر ممثلا اول للسلطة التنفيذية او الاجرائية في حين ان الدستور ناط هذه السلطة بمجلس الوزراء مجتمعا، علما ان عدم الوضوح في النص الدستوري حيال دور كل من رئيس الدولة والرئيس المكلف تأليف الحكومة كان متعمدا لتسهيل اخراج اتفاق الطائف الى النور ولعدم احراج المسيحيين الذين خسر موقع الرئاسة الاولى الذي يتولون صلاحيات كثيرة والذين كانوا موضع انتقاد من المسلمين للدور الاكبر الذي كان يمارسه رئيس الدولة على صعيد الحكومة او على اي صعيد آخر.

-3 تناقض مواقف اطراف اساسيين من القرار 1559 الذي يمكن اعتباره سببا للكثير من الخلافات الحالية والتعثر والمرشح لان يصبح ربما الموضوع الخلافي الوحيد باعتبار ان كل الجهات السياسية في لبنان عندها ميل "فطري" ودائم لرفع عناوين وطنية لخلافاتها في حين ان جوهر الخلافات قد يكون بعيدا عن الوطن ومصالحه. فساعة ينصح هؤلاء الجهات المستهدفة بالحكمة وبالتجاوب مع القرار المذكور ويعدونها بالمساعدة لايجاد المخرج الذي يحقق الغايات الدولية ويحقق الغايات المحلية ويحذرونها وان على نحو غير مباشر من ان يصيبها ما اصاب الحزب الشيوعي اليوناني في اعقاب اعتراضه على اتفاق المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية على ان تكون اليونان جزءا من المعسكر الغربي لا الشرقي “الشيوعي”. وما اصاب الحزب المذكور كان الضرب او التصفية بعد 3 سنوات وساعة اخرى يرفضون هذا القرار ويدعو الجهات المستهدفة به الى عدم الرضوخ ويطلب او بالاحرى يشترط على الحكومة الجديدة التي لم تبصر النور بعد المطالبة بتعديله او ربما برفضه. وهم يعطون في الحالين مبررات مقنعة لموقفيهما المذكورين على تناقضهما. وذلك يربك الساحة السياسية وكل الوضع اللبناني فضلا عن الناس انصارا او موالين او حلفاء او اخصاما.

-4 تناقض كل الاطراف السياسيين عند تناولهم الديموقراطية. فكلهم معها. ولكن “في وقت الحزة”، كما يقال، يتبين كم هم بعيدون عنها. فالديموقراطية تعني من جملة ما تعني ان الحكومة يفترض ان تعكس الغالبية في مجلس النواب. وعندما افرزت الانتخابات النيابية الاخيرة وربما للمرة الاولى في تاريخ لبنان غالبية معينة وان غير متماسكة، الا لان من في مواجهتها ربما يشكل خطرا عليها بدأ الحديث عن ديموقراطية توافقية وعن استحالة قيام حكومة غالبية لان الوضع اللبناني الطائفي والمذهبي لا يسمح بذلك. وهذا صحيح. لكن الصحيح ايضا انه على كل هؤلاء ان يتصرفوا انطلاقا من الواقع المزري وان يعملوا لتجاوزه اذ لا التقيد بنظرية الغالبية اليوم ممكن او صحيح. ولا تكريس الواقع المزري رغم انه ممكن.

في اختصار ان ما يعيشه لبنان اليوم، وهو صعب وقد يكون مكلفا على اكثر من صعيد، هو نتيجة انتصار غير كامل للمعارضة اللبنانية او التي كانت تسمى معارضة ونتيجة خسارة غير كاملة للموالاة او التي كانت تسمى موالاة، علما ان ابرز رموزها لا يزال في السلطة. والانتصار غير الكامل تسببت به خلافات المعارضين على تنوعهم سواء على امور تافهة وشخصية او جوهرية والوضع الطائفي والمذهبي في البلاد. والخسارة غير الكاملة ساهم فيها الوضع الطائفي المذكور والوضع الاقليمي الذي كان داعما الموالاة ولا يزال والذي لا يستطيع الا ان يبذل كل ما في وسعه وإلا أن يستعمل كل ما يقع في يده لابعاد الخسارة عن نفسه. ذلك ان خسارته الحلفاء اللبنانيين تجعل خسارته مباشرة. وهذا الوضع المشروح يربك من دون ادنى شك الولايات المتحدة بل المجتمع الدولي الذي يرى القضايا الدولية احيانا كثيرة بعين تبسيطية فيقع في الفخ كما يوقع اطراف هذه القضايا في الفخ ايضا.

مصادر
النهار (لبنان)