العلاقات الاقتصادية والمالية السورية – اللبنانية كانت دائماً مناقضة لمستوجبات التعاون والتكامل. وهذه المستوجبات التي اصبحت واضحة في عقود العولمة والاسواق المشتركة كانت واضحة للدول العربية اوائل الخمسينات عندما اقرت الجامعة العربية خطوات لإنشاء سوق مشتركة ما بين الدول الاعضاء عام 1952.

في تلك الحقبة لم تكن هناك انظمة اشتراكية في العالم العربي، وكانت الدول العربية النفطية تحظى بالنزر اليسير من مداخيل صادرات النفط، كما كانت توجهات تعزيز حركة الترانزيت، سواء بواسطة انابيب النفط او النقل البري، قوية ومرحّباً بها. ورغم النظرة العامة الى ضرورة الانفتاح والتعاون في مجالات النقل والتبادل، كانت سوريا خالد العظم تمارس القطيعة مع لبنان لخلافات على الرسوم الجمركية وقواعد الانظمة النقدية في البلدين.

عام 1956 حصل تحول كبير نحو الانظمة الاشتراكية. فالزعيم العربي الكبير عبد الناصر اختلف مع الاميركيين حول تمويل بناء السد العالي، وكان وزير الخارجية الاميركي في ذلك الوقت فوستر دالاس يستعمل موضوع التمويل لجر مصر الى ما سمي في ما بعد “حلف بغداد”. وأدت ممانعة عبد الناصر لهذا التوجه الى محاولة الاميركيين معاقبته بسحب التمويل لبناء السد العالي. ووجد عبد الناصر البديل لدى الاتحاد السوفياتي الذي كان يسعى الى تحقيق اختراق ديبلوماسي في الشرق الاوسط. والحلف العسكري الاقتصادي ما بين مصر والاتحاد السوفياتي كان ثمنه تبني مصر النظام الاشتراكي، وهذا ما حصل. ومن ثم، برزت فكرة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وكان على سوريا ان تطلّق نظام الاقتصاد الحر وتتبنّى المنهجية الاشتراكية وقوانين التأميم، الخ.

لكن الانفصال بين سوريا ومصر لم يؤد الى استعادة سوريا نظامها الاقتصادي الحر. وكانت هذه خلال سنوات الوحدة الثلاث قد فقدت غالبية قادتها السياسيين الذين غادروا الى المملكة العربية السعودية وشكلوا جناحاً استشارياً مهما للحكم السعودي، او وفدوا الى لبنان وكرسوا خبراتهم في مجالات العمل التجاري والمصرفي والعقاري، وحققوا نجاحات كبيرة.

ومنذ عام 1958 بقي الحكم السوري رهينة النظام الاشتراكي، وتكرس هذا الامر مع تولي حزب البعث قيادة شؤون البلاد. والاشتراكية، على صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية، تتجه نحو الاتفاقات الثنائية لا نحو اتفاقات الاطراف المتعددة. وكان الاتحاد السوفياتي الطرف الاول والأهم في مجال التعاون الاقتصادي مع سوريا، وبالنسبة الى بعض الحاجات، كانت دول اشتراكية اخرى، كيوغوسلافيا والمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا، تغطي حاجات سورية معينة.

المنهج الاشتراكي يزاوج بين القيادة السياسية والقرار الاقتصادي، ويحصر حق اتخاذ القرارات بالمسؤولين الحزبيين ويستند هذا المنهج الى ضرورة تطوير وحدات انتاجية تتمتع بحمايات احتكارية تتعزز بمنع المنافسة الخارجية والحؤول دون اختراق السوق من رؤوس اموال اجنبية تحمل معها تقنيات حديثة.

عام 1986 بدأ النظام الاقتصادي السوفياتي ينهار، واخذت علاقات السوفيات الاقتصادية مع الدول الوثيقة الصلة بموسكو تتبدل جذرياً بعد تسرب حس المنافسة الدولية الى النفسية السوفياتية. وبدأت دمشق تحس الفارق بين الزمن السابق وما بعد 1986، وأصدرت عام 1989 قوانين لتشجيع الاستثمار، وأعلن الرئيس حافظ الاسد اوائل التسعينات ان على سوريا مواكبة تطورات الاسواق المشتركة وتوجهات العولمة، وان يكن بهدوء ومن دون تسرع.

لكن الانفتاح السوري على السياسات الاقتصادية الليبرالية كان مقيّداً بمخاوف من مساوئ الانفتاح المتسرع الذي برزت آثاره في روسيا. ورافق تفحّص سوريا لمناهج تحرير العمل الاقتصادي توسّع الدور السوري وتجذّره في لبنان بعد انجاز اتفاق الطائف.

وبدلاً من الافادة من خبرة اللبنانيين في مجال النشاط الاقتصادي، ومن خبرة السوريين العاملين بنجاح في لبنان في المجال المصرفي والانشائي والتجاري والفني اتجه السوريون الى تكريس مركزية القرار من السلطة الاحتكارية ما دام القرار السياسي يتيح المبادرات الاقتصادية او يجمدها. وكان القرار السياسي مدى 15 سنة في ايدي رجال امنيين استخباراتيين، أقبلوا على الحياة الاقتصادية من منافذ السعي الى الافادة والافادة الانتقائية التي أمنت لبعضهم ولمن حولهم ثروات خيالية، وخصوصاً من استغلال مجالات التهريب والتحكم في قرارات المشاريع الكبرى، سواء أكانت انشائية ام خدماتية.

واتفاقات التعاون والتنسيق ما بين لبنان وسوريا والتي صيغت في بداية عهد الرئيس الياس الهراوي، وضعت لتبدو عصرية وانفتاحية، لكن تطبيقها بقي معلقاً على الارادة السورية لأن منافذ البضائع الوافدة الى لبنان كانت في أيدي السوريين، كما منافذ التصدير الى سوريا، وبالتالي استمرت نفسية احتكار القرار السياسي للخيار الاقتصادي في التحكم في مجريات التبادل والتعاون ما بين البلدين حتى تاريخ الانسحاب السوري في 26 نيسان 2005.

اليوم سوريا تمارس على الحدود مع لبنان، بالنسبة الى التصدير، ما مارسته خلال عقود، أي اخضاع الحركة الاقتصادية الى الاعتبارات السياسية. لكن الزمن تغيّر. فسوريا مرتبطة باتفاق تحرير التجارة العربية الذي يفترض ضمناً وكشرط اساسي تسهيل انتقال البضائع ما بين البلدان العربية، ومستقبلاً تسهيل تبادل الخدمات على نطاق واسع. وسوريا تسعى الى انجاز اتفاق مع السوق المشتركة. وفي نهاية المطاف، تود الانضمام الى منظمة التجارة العالمية.

جميع هذه التوجهات معرضة الى الانتقاص بسبب الموقف السوري من حركة الشاحنات من لبنان. وسوريا التي يقال انها تعبّر عن استيائها من تصريحات اللبنانيين بعد الانسحاب السوري، تدرك ان اللبنانيين والسوريين المتلبننين كانوا أول من ساهم في دعم توجهات سوريا نحو تحرير نظامها المصرفي وانشاء مصارف خاصة. وكل من درس موضوع المصارف الخاصة في سوريا يعلم ان هذه المصارف لن تنجح ما لم يسمح بانشاء شركات التأمين وتنشيطها. وكانت سوريا قد سمحت بانشاء شركات كهذه وعملها بعد سماحها بانشاء مصارف خاصة.

وحتى تاريخه، بادرت ست مجموعات مصرفية لبنانية الى الحصول على تراخيص للعمل في سوريا ورأس مال كل منها يجب ان يساوي على الأقل 30 مليون دولار. وبحسب المعلومات المتوافرة، قرر مصرفان من المجموعات اللبنانية الانطلاق باعتماد رأس مال مقداره 50 مليون دولار للمصرف الواحد. بكلام آخر، الالتزام اللبناني للاستثمار المصرفي في سوريا تجاوز 110 ملايين دولار (50 في المئة من أربعة مصارف رأس مال كل منها 30 مليون دولار و50 في المئة من مصرفين رأس مال كل منهما 50 مليون دولار) وسوف يتبع هذه الاستثمارات انشاء شركات تأمين من المصارف الستة المشار اليها والتي يملك كل منها شركة تأمين معروفة، باستثناء مصرف واحد يستطيع تأمين مشاركة. وبالتالي، ستستثمر المؤسسات اللبنانية 45 مليون دولار اضافية، مما سيجعل لبنان على الارجح مصدر الاستثمار المالي الأهم في سوريا سنة 2005، فهل يجوز ان تستمر المعاملة على الحدود كما هي؟ وهل من مصلحة سوريا ان تستثير سلطات السوق الاوروبية كما منظمة التجارة العالمية عبر هذه الممارسات المناقضة لكل من الكتلتين؟

ان أي مراقب عاقل ومخلص يدرك ان فرص التعاون والتكامل الاقتصادي بين لبنان وسوريا كبيرة ولا يجوز اهمالها اذا كان للبلدين ان يحققا معدلات نمو مقبولة.

وفرص التعاون والتكامل واسعة في مجالات الطاقة والمياه وتكامل الانتاج الزراعي مع الانتاج الصناعي وتجارة الترانزيت، والخدمات المالية والسياحية والتعليمية والتدريبية والصحية.

ان التركيز على التضييق بدل الانفتاح والتعاون يعيد سوريا الى ذهنية التخطيط المركزي وقيادة الحزب للحياة الاقتصادية، وهذه الذهنية تضر بسوريا أكثر مما تضر بلبنان، وتجعل من المستحيل امكان تجاوز سوريا لصعابها الاقتصادية والفنية المستحكمة والتي تعوق تحقيق معدلات نمو واعدة.

مصادر
النهار (لبنان)