قال وزير المالية “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو، إن “إسرائيل” ستتوقف عن الاعتماد على المعونات الاقتصادية الأمريكية، وإنها ستتمتع باستقلال مالي خلال ثلاث إلى أربع سنوات. وأضاف أن ميزانية “إسرائيل” لعام 2006 2007 ستخلو من بند المساعدات الاقتصادية الأمريكية لأول مرة في تاريخ الدولة العبرية. ترى، لماذا يريد المسؤولون “الإسرائيليون” أن يتنصلوا من الوصاية الأمريكية على “إسرائيل”؟ فهل بلغت “إسرائيل” رشدها وأصبحت تستطيع الاعتماد على نفسها في كسب الرزق، وبمعزل عن الدعم الأمريكي؟

الواقع أن “إسرائيل” لا تستطيع ومهما حاولت أن تخرج من تحت الوصاية الأبوية الأمريكية عليها، فمشروعها مرتبط ببقاء الولايات المتحدة قوة عظمى في العالم، فإذا انهارت الولايات المتحدة أو تقهقرت قوتها، فإن “إسرائيل” لن تقوى على البقاء، وسوف تتفكك من تلقاء نفسها ودون طلقة رصاص عربية واحدة عليها. ولقد قامت “إسرائيل” نتيجة مؤامرة كبرى نسجتها الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى (بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة) ضد الأمة العربية، حيث تلاقت إرادات هذه الدول على إنشاء كيان استيطاني يهودي في فلسطين لخدمة الأهداف الاستعمارية لهذه الدول.

ولما كانت بريطانيا هي الدولة الأولى في العالم آنذاك، فقد تعهّدت بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وجاء هذا التعهّد على شكل رسالة وجهها وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور إلى اليهودي الإنجليزي اللورد روتشيلد الذي قدّم خدمات مالية كبرى للحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وتتضمن الرسالة وعداً ينصّ على عطف الحكومة البريطانية على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ومن أجل ضمان تحقيق هذا الوعد، جعلت بريطانيا فلسطين من نصيبها من الدول العربية التي تقاسمت استعمارها مع فرنسا، وأصبحت فلسطين تحت الانتداب البريطاني الفعلي منذ عام ،1922 بعد أن كان لها حضور فيها منذ أن قامت قواتها بمساعدة الشريف حسين على طرد الأتراك من بلاد الشام عام 1918. وفتحت حكومة الانتداب البريطاني أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية، وقامت بانتزاع الأراضي الواسعة من الشعب الفلسطيني وتقديمها لليهود ليقيموا عليها المستوطنات والبنية التحتية لدولتهم الموعودة، وسار الاستيطان اليهودي خطوة خطوة بطريقة علمية منظمة مبرمجة آخذة بعين الاعتبار الظروف المحيطة بالحركة الصهيونية، وبعد دراسة وفهم لواقع الوطن العربي المتخلف والمجزّأ. وكان اجتماع الشياطين الثلاثة (روزفلت، وتشرتشل، وستالين) في طهران عام 1943 قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، حاسماً بالنسبة لإنشاء دولة “إسرائيل”. ففي هذا الاجتماع سعى روزفلت وتشرتشل إلى أخذ موافقة ستالين على إنشاء دولة “إسرائيل”، وقد وافق ستالين على ذلك مقابل السماح للاتحاد السوفييتي بوضع يده على أوروبا الشرقية، وهو ما وافق عليه روزفلت وتشرتشل. وفي هذا الاجتماع، اتفق الثلاثة كذلك على إنشاء منظمة عالمية لتسهيل إنشاء “إسرائيل”. وعاد الثلاثة في اجتماع “يالطا” عام ،1945 وأكدوا حق الشعوب في تقرير المصير، وكان المقصود بذلك الشعب اليهودي فقط. وانتهت الحرب العالمية الثانية عام ،1945 ووقعت دول أوروبا الشرقية كلها في يد الاتحاد السوفييتي السابق، وأنجزت بريطانيا مهمتها في فلسطين، فقررت الانسحاب منها في 14/5/1948. وفي اليوم التالي أعلن اليهود قيام دولة “إسرائيل”. وسارعت الدول الثلاث (الاتحاد السوفييتي السابق، والولايات المتحدة، وبريطانيا) إلى الاعتراف بها. وبذلك اكتسب وجود “إسرائيل” الشرعية الدولية التي تمثلها الدول الثلاث. وقامت بريطانيا بدفع الدول العربية إلى محاربة “إسرائيل” بهدف إجبار هذه الدول على الاعتراف بها. واضطرت الدول العربية المهزومة في تلك الحرب إلى عقد اتفاقيات هدنة مع “إسرائيل” عام ،1949 كانت بمثابة اعتراف عربي أولي بها.

وفي عام ،1950 أصدرت كل من “الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا” بياناً مشتركاً تتعهد فيه هذه الدول بالوقوف ضد أي عدوان في الشرق الأوسط. وكان الهدف من هذا البيان هو حماية “إسرائيل” من الدول العربية، وأصبح وجود “إسرائيل” أمراً واقعاً. وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية زعيمة العالم الغربي، وضعت “إسرائيل” تحت رعايتها، وما لبثت هذه الرعاية أن تحولت إلى تحالف راسخ. وبدأت المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية تأتي إلى “إسرائيل”. ففي تموز/يوليو 1966 منحت وكالة التنمية الدولية الأمريكية قرضاً قيمته عشرة ملايين دولار ل”إسرائيل” لمساعدتها على مواجهة نفقاتها من النقد الأجنبي. وفي أيلول/سبتمبر 1971 قدّم البنك المركزي الأمريكي للتصدير والاستيراد مبلغ 5،5 مليون دولار قرضاً ل”إسرائيل”. وفي آذار/مارس 1972 أعلن سيسكو مساعد وزير الخارجية الأمريكية، أن المساعدات التي قدمتها حكومة نيكسون ل”إسرائيل” في أربع سنوات، أي من عام 1969 حتى عام ،1972 تجاوزت المعونة التي أعطتها لها جميع الحكومات الأمريكية مجتمعة منذ سنة ،1948 إذ بلغت 1182 مليون دولار.

وفي غضون حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 فتحت الولايات المتحدة أبواب المساعدة ل”إسرائيل” على مصراعيها وكأنها ولاية أمريكية، فزادت أمريكا المساعدات وضاعفتها. ففي كانون الأول/ديسمبر 1973 وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على اعتماد معونات عسكرية ل”إسرائيل” قيمتها 2200 مليون دولار مع إعفائها تماماً من 1500 مليون دولار من ثمن الأسلحة، وكأن العرب يقاتلون الأمريكيين. وبدأت المساعدات السنوية الأمريكية ل”إسرائيل” منذ عام ،1974 حيث وافق الكونجرس الأمريكي على اعتماد مبلغ 6،2 مليار دولار سنوياً ل”إسرائيل”. وظلت المعونات الأمريكية ل”إسرائيل” تشكل العمود الفقري للاقتصاد “الإسرائيلي”، ولآلة الحرب العسكرية في “إسرائيل”. وبلغت هذه المعونات ذروتها لتقطع الألسنة التي تحاول تحييد العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” عندما قدمت الولايات المتحدة ل”إسرائيل” عام 1991 تسهيلات قروض تبلغ قيمتها عشرة مليارات دولار أمريكي لمساعدتها في استيعاب أكبر عدد من المهاجرين الجدد، وتوفير سبل العيش والإقامة لهم في فلسطين العربية.

وتتلقى “إسرائيل” اليوم مساعدات سنوية أمريكية تبلغ 3 مليارات دولار عدا ما تقدمه الولايات المتحدة لها من أسلحة متطورة على سبيل المساعدة المجانية، وكان آخرها في 11 يوليو/ تموز 2005. ونسبت صحيفة “هآرتس” إلى مصادر حكومية أن وفداً يضمّ مسؤولين “إسرائيليين” توجه إلى واشنطن ليطلب من الولايات المتحدة نحو 2،2 مليار دولار من شكل مساعدة خاصة لتمويل المخصصات العسكرية لتطوير النقب والجليل في أعقاب إخلاء قطاع غزة، وهو ما أكده نائب رئيس الوزراء “الإسرائيلي” شيمون بيريز. وبعد ذلك، هل يمكن ل”إسرائيل” أن تستمر في الوجود من دون مساعدات الولايات المتحدة والدول الغربية؟. فهذا تحريف رهيب لمسار التاريخ وللحقيقة الواقعية. فنشأة هذا الكيان “الإسرائيلي” انطلقت من مسيرته التشاؤمية، وإن تقدمه ووجوده دون الاعتماد على الغرب هو وهم وسراب خادع. فهذه الدولة فقدت ثقتها بالإنسانية والاستقامة والتعقّل والصدق، وانطلقت من رفضها لكل قرارات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وتطورها وما وصلت إليه من القوة، ومن القوة جعلت مرشدها الأوحد.

إنها تنحرف عن هدف الحياة، وتصبح عبئاً على المجتمع الدولي وعلى الإنسان وحضارته، لأنها تأسست على طريق المتناقضات والاصطدامات والعنف والقمع والحروب. وهي وصورها ووجودها تعتبر مرحلة واهية، بل شكلية كاذبة وخالية من روح الجماعة الإنسانية المتجسّدة في استمرارية الدولة إذا ما اعتقدت أن استراتيجيتها العسكرية وتفوّقها التكنولوجي سيجعلانها تتفوّق على غيرها من دون ضابط أخلاقي وإنساني. إنها من دون شك ستصبح عاجلاً أم آجلاً خارج كل ميدان، وخارج المجتمع العالمي وبعيدة عن حقائق العدالة والطبيعة البشرية، بل إن ذلك النهج سيؤدي إلى انتحارها وزوالها.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)