بددت الاجراءات السورية على الحدود والتي كان آخر مظاهرها اعتقال صيادين لبنانيين في المياه الاقليمية، وهو تصرف عانى لبنان مثله مع اسرائيل طوال عقود، فضلا عن كلام رئيس المجلس الاعلى اللبناني السوري نصري الخوري الذي برر اجراءات دمشق على الحدود، كل الشكوك حول اسبابها الامنية. وتفيد معلومات لمصادر ديبلوماسية ان هذه الاجراءات قد تكون من ابرز وسائل حماية النظام السوري لنفسه من خلال عكس نتائج انسحابه القسري من لبنان في اتجاه غير اتجاه مساءلته عن الاسباب والاخطاء التي قادت الى انسحاب مماثل غير مشرف نحو ترجمة الغضب على اللبنانيين "غير الاوفياء" لتضحيات سوريا وفق المنطق الذي يسود داخل المجتمع السوري. وهو نجح في ذلك حتى الآن.

لكن في المنظار الديبلوماسي الغربي للامور، فان دمشق كشفت عبر هذه الاجراءات ممارستها ضغوطا على لبنان قبيل تأليف الحكومة ورغبتها في اثبات قدرتها على التأثير. لذلك تحركت واشنطن بقوة على خط ممارسة الضغوط من اجل الافساح في المجال امام تشكيل الحكومة من خلال زيارة الموفد الدولي المكلف تنفيذ القرار 1559 تيري رود – لارسن لبروكسيل للبحث في التطورات في لبنان مع وزراء الخارجية لدول الاتحاد الاوروبي ومنها السياسة "العدائية" السورية المعلنة والتي تقول معلومات ان شخصيات لبنانية تبلغتها على هذا النحو بالذات وبالتعابير نفسها.

ويضع الديبلوماسيون الغربيون اداء رئيس الجمهورية اميل لحود في سلة واحدة مع الضغوط السورية. فحين زارت نائبة مساعد وزيرة الخارجية الاميركية اليزابيت ديبل لبنان قبل اسبوع في اطار التشديد على نقاط السياسة الاميركية في لبنان، مررت رسالة مهمة بتجاهلها زيارة قصر بعبدا على نحو ما فعل جميع الديبلوماسيين الاميركيين الذين زاروا لبنان بعد التمديد للحود. وفحوى الرسالة الاميركية ان لا اهمية كبرى تعلق على بقاء لحود اذا ما ظل هادئا. ولكن اذا تحرك على خط ما يمكن ان تعتبره واشنطن وغيرها من الدول عرقلة ادارة الغالبية اللبنانية للسلطة وتأليف حكومة على هذا الاساس فهو سيواجه بجملة ضغوط دولية بدأت طلائعها الاسبوع الماضي. ولذلك كان ثمة حذر ملحوظ في ظهور لحود كأنه من يعترض مباشرة وعلنا على الصيغ الحكومية واستخدام حتى الآن اعتراضات الآخرين ليبني عليها تحفظاته لئلا يظهر انه هو شخصيا من يعرقل تأليف الحكومة امام الرأي العام الداخلي والمجتمع الدولي. علما ان رئيس الوزراء المكلف فؤاد السنيورة قدم اليه اوراقا كثيرة استطاع توظيفها على هذا النحو.

في المقابل، لم يأخذ ديبلوماسيون غربيون ما قامت به سوريا في اطار ضبط نشاطات ارهابية بالتزامن مع ضبط الحدود الى درجة اغلاقها مع لبنان على محمل الجد الذي يمكن ان يبنى عليه نظرة مغايرة للمجتمع الدولي ازاء سوريا. ويقول هؤلاء ان كلام وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس في اطار الثناء على دمشق ووصفها مكافحة السوريين خلايا ارهابية بالامر الجيد حمل اكثر مما يمكن ان يحمل. والمسؤولون السوريون على عادتهم في الاعوام الاخيرة في تفسير المواقف الاميركية يأخذون منها الجزء الذي يرونه مناسبا في حين ان مواقف ادارة الرئيس جورج بوش لم تتغير فعلا من دمشق ولن تتغير على ما يبدو في المدى القريب. فثمة انزعاج كبير من تبني حركة "الجهاد الاسلامي" التي لا تزال سوريا تستضيف قادتها عملية نتانيا الاخيرة فضلا عن استياء من دعوة المسؤولين الاتراك الرئيس السوري بشار الاسد لتمضية عطلته في تركيا والتي ستحصل قريبا على ما اعلن.

مغزى ذلك ان دمشق تخطت في اجراءاتها المدى الامني الذي اعطته لاجراءاتها الحدودية المتشددة مع لبنان الى المدى السياسي، مما سيبرر ضغوطا او اجراءات دولية عليها. لكن الاهم من ذلك في اللعبة السياسية الداخلية في لبنان، فان مفاعيل خطواتها واجراءاتها عكسية. فمن جهة تعطي ادلة للرأي العام اللبناني والخارجي باستمرار محاولات تدخلها في لبنان والضغط عليه من اجل اعتماد سياسات معينة كانت الحوادث الامنية التي وقعت في الشهرين الاخيرين تثير شكوكاً كبيرة حولها، لكنها كانت موضع تضارب في الرأي بين اللبنانيين. في حين ان الاجراءات الحدودية واعتقال الصيادين تزيل اي شكوك من هذا النوع بحيث يستطيع اي كان تفهم موقف سوريا او تبريره. ومن جهة اخرى تؤدي هذه الاجراءات الى تقوية منطق الغالبية النيابية من انها لا تزال في موقع المستهدف من اجل عدم تسلم السلطة السياسية او وضع حدود لها وفرض بقاء موقع قدم سوري متقدم ضمن هذه السلطة.

في اللعبة السياسية الداخلية يرتكب الافرقاء جميعهم الخطأ تلو الآخر وما وصل اليه لبنان في هذه المرحلة يتحمل الجميع مسؤوليته بما فيهم الغالبية النيابية التي تظهر تناقضا فاضحا في ادائها على الاقل من حيث ترجمة ما تعلنه. فاذا كان التوافق الكبير بين برنامجها وبرنامج العماد ميشال عون، لا يفهم احد كيف يمكن السنيورة ان تكون التشكيلة التي عرضها اخيرا هي التي يستطيع العمل من خلالها في حين لم يعلن توافق بين هذه الغالبية والطائفة الشيعية مثلا التي تم التوافق معها على دخول الحكومة. ولا يفهم ايضا كيف يعطى لحود باستمرار ذرائع عدم توازن الصيغ الحكومية وعدم اقفال هذا الباب.

مصادر
النهار (لبنان)