ما شهدته العاصمة البريطانية يوم الخميس 7 يوليو (تموز) 2005 غيّر وسيغيّر الكثير من الأمور. ونحن «عرب لندن» كما يصنف بعضنا نفسه، أو «البريطانيون المتحدرون من أصل عربي» كما يصنفنا البعض الآخر، فجأة وجدنا أنفسنا في ذلك اليوم في خط المواجهة الأول لـ«صراع حضارات». وأنا أزعم بالمناسبة أن ثمة أكثر من جهة تدفعنا باتجاهه لغايات شتى، كلها مجللة بأهداف سامية لكنها ـ في الواقع ـ كلها لا تستحق قطرة دم برئ قتل بغير حق أو دمعة في عين مفجوع فقد قريباً أو حبيباً.

ولأذهب أبعد من ذلك لأقول، إنني خلال ساعات ذلك الصباح المؤلم، بعدما أخذت تتكشف أبعاد الكارثة شعرت، وسط جموع الناس، انني أفكّر تماماً كما يفكرون، شعرت بأنني لا أريد أن استسلم للابتزاز. لن أقبل بأن يملي علّي أحد شروطه وأفكاره بحد السيف...أو بالأجساد المفخخة كما في حالة ما بات يعرف بـ«تفجيرات 7/7»..

شعرت أن لغة الموت لا تصلح وسيلة للحوار، وأن قتل الأبرياء مرفوض كورقة مساومة في التعايش والتلاقح الحضاري.

مثلي مثل آلاف الواصلين إلى محطة واترلو للسكك الحديدية عقدت العزم على مواصلة السير نحو مكتبي على قدميّ، إيماناً مني بأن هناك أصولا أخرى للتحاور والتفاعل والاختلاف وحتى التعادي والتقاتل...حتماً ليس بينها قتل الأبرياء، وما كان أكثر الأبرياء من راكبي وسائل المواصلات العامة، ومنهم الطفل والعجوز، والأسود والأبيض، والمسلم والمسيحي، والهندوسي والبوذي، واليساري واليميني، والأم واليتيم، و«ابن البلد» والضيف الباحث عن لقمة العيش..

في تلك اللحظات ـ أكثر من أي وقت مضى من 26 سنة هي عمر إقامتي في بريطانيا ـ أدركت أنني أنتمي إلى مجتمع فيه معايير محددة للاعتراض وتسجيل المواقف، وأنا اليوم أشعر باعتزاز بهذا الانتماء رغم فداحة ما حصل وخطورته المحتملة على أكثر من صعيد.

هذا، باختصار، هو شعوري الصادق تجاه «تفجيرات 7/7»، غير أنه من الخطأ التوقف عند محطة الاستنكار والشجب والسعي للتملّص من المسؤولية.

مَن المسؤول؟

باعتقادي أن هناك مسؤوليات على طرفي الجدل الكبير الذي فاقمته هذه التفجيرات الإجرامية، ومن الواجب على الجميع...أولاً التخلي عن المكابرة، وثانياً التحلي بالموضوعية والإنصاف في مقاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وبكل صراحة أنا لست متفائلاً بتحقيق نجاح قريب على هذين الصعيدين. إن قراءة التاريخ بصورة صحيحة ومنفتحة تشير إلى «دورات» صدام وحصار حضاريين تتكرر عبر العصور، وتشهد مداً وجزراً ليس على صعيد «الغزوات» والتوسع فحسب، بل أيضاً علي صعيد نمط التفكير والنظرة إلى العدو، وتحديد المسلّمات والمحظورات التي تشملها منظومات القيم المتبدلة دائماً بالتوازي مع اختلال موازين القوى، وعنف المواجهة وحدودها وأسلحتها.

ولا شك، أن علينا تجاوز مرحلة الإدانة كمجرد «مهرب» مناسب من ورطة، أو حاجة إلى «تسجيل موقف» مفيد ضد غريم محلي، وهذا بغض النظر عن منظورنا الأخلاقي لما نشهده من حولنا، من العراق إلى فلسطين، ومن لبنان إلى لندن، عبر نيويورك ومدريد وجزيرة بالي وجبال أفغانستان ووديان الشيشان...وغيرها من «ميادين» العنف الأعمى ضد المدنيين.

أنا لا أسعى هنا إلى التبرير...أبداً، لكنني أعتبر أن الإدانة اللفظية أو الإجراءات التجميلية والتخفيفية ما عادت تكفي، بل يجب على كل أهل الرأي والسلطة في المجتمعات الإسلامية وخارجها إلى التنادي لبحث العلاقة الإشكالية بين قطاع محبط أو مضلّل “بفتح اللام” داخل هذه المجتمعات قرر تفجير العالم من حوله، وبين نخبة عالمية مصرة على أنها تحتكر الفضيلة والحق، وفي ظل هذا الاحتكار تواصل «غزوها» الثقافي والمادي والمفهومي لكل شعوب الأرض.

صحيح ليست هناك قوة في العالم تستطيع منع شخص أو فئة من ارتكاب جريمة ضد برئ...لكن من الممكن حتماً إيجاد حالة ما تتناقص فيها فرص نمو مفاهيم إقصائية أو استئصالية تستحلّ دماء الآخرين.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)