يقولون الموسيقى نغم الحياة فهي مرآة تعكس النفس الانسانية وهي تعبير عن الواقع الذي نعيشه بالاضافة لكونها مدخلاً إلى التراث إنها بالدرجة الأولى تذوق و من لا يستطيع تذوق الموسيقى لا يمكنه أبداً تذوق ألوان و أطياف الحياة.

لطالما كانت هذه الأسطر حقيقة لسنين طويلة مضت أمّا الآن و مع الأسف فقد أصبحت طي النسيان، فالموسيقى اليوم ليست إلا مجرد زمر و طبل و أغاني فارغة تفتقر للمعنى «فيها إيه لو اكلّم صحبك و الّم الناس حوليّا ليه تخلي الغيرة تصاحبك زي ماليك حق أنا لية»والحس الإنساني فهي سائرة لا محالة نحو أقصى درجات الانحطاط.حتى التراث لم يسلم من موجة الانحدار هذه.
و في الآونة الأخيرة أمطرتنا الفضائيات العربية بوابل من الأغاني المتشابهة التي لا يمكن أن تحدث في النفس إلا القلق و الضجيج و التوتر الدائم.

إن هذه الظاهرة “انحدار الغناء و الفن” تعتبر من أبرز ظواهر الانحطاط الّذي نعاني منه في مجتمعاتنا العربية كنتيجة طبيعية لتدنّي مستوى الثقافة لدى الأفراد اللّذين لا يكتسبون مجرد ثقافة بسيطة بأي من المجالات مما يعني أنّهم لا يتلقّون المبادئ الأساسية للموسيقى الّتي تساعدهم على تذوّقها.
و لعلّ هذه المشكلة تتفاقم يوماً بعد يوم منعكسةً بشكل خاص على الغناء فلدينا الآن أعداد كبيرة لا يمكن التنبّؤ بها من المغنين على الرغم من أنّه لمن الظلم أن نطلق عليهم صفة المغنين حيث أنّهم لا يستحقّون حتى لقب المؤدين فهم لا يملكون أي مؤهل من مؤهلات الغناء الصوت، الإحساس و الأداء، و لا أي شيء من هذا القبيل هم يملكون فقط جسداً و شكلاً مثيراً مما يجعل الغناء عملية تجارية بحتة هدفها الربح المادي فقط و الشهرة أولاً و أخيراً. و مما لا شكّ فيه أنّ الباب أصبح مفتوحاً أمام الجميع «لا سيما أن الفن أصبح كما يقولون شغلة اللي مالو شغلة» فكل من يرغب بالتلحينن، التأليف، الإخراج و الغناء معاً يستطيع بكل بساطة بغض النظر عن مؤهلاته «أكلمك مش موجود ألمحك بين الوجوه أكتب مكاتيب ......». و أنه لمن المعيب حقاً أن نطلق على هذه الكلمات المتلاصقة الفارغة من أي محتوىً و الألحان التي في غالبها مسروقة متشابهة أغاني و هذه الأصوات النشاذ المؤذية للسمع مغنيين .

إن هذا فعلاً لمن سخريات القدر مع الإشارة إلى أن السخرية الأكبر هنا تكمن و تتجلى في محاولة تشويه و طمس أغاني التراث أو ما يسميه هؤلاء البرابرة المتعدين على الموسيقى عملية تجديد التراث وذلك من خلال ابتداع مجموعة من الأغاني ذات ريتم و إيقاع واحد و كلمات متجانسة متشابهة من حيث درجة السخافة «بضعتنا كومة ديس الشوك اللي بيهم جارح دست عليهم ما حسيت بالي مع ولفي سارح، راحت تقنقش حطب........» إلى جانب ربط التراث بمنطقة واحدة و كأن الموسيقى تقيّد و يوضع لها حدود .

و لعل هذا ليعتبر من أخطر الأشكال التي قدمتها ولازالت تقدمها لنا موجات الصرع هذه أو مايسمونها التجديد والتحديث فهي لا تساعد فقط على الإنحدار هي أيضاً تحاول إضاعة هويتنا بتلويثها لهوية الإبداع من خلال اتباعها في إبداع الفن مبدأ هات إيدك و الحقني و الشاطر هو اللي بيربح أكثر.لا أحد ضد التطوير و التحديث و لكن لكي نجدد علينا البدء بأنفسنا أولاً ليس بالعوامل المحيطة بمعنى آخر أن نبدأ بالمضمون و من ثم ننتقل إلى الشكل لا العكس.

و وسط هذه الجلبة و هذا التطور الجاهل للموسيقى و الفن لا يسعنا إلا أن نتساءل هل هذا النمط أو الشكل المتّبع حالياً في الموسيقى "الشبابي" هو فعلاً ما نحتاج إليه كجيل شاب للتعبير عن همومنا و إيقاع حياتنا ؟ أهذا هو الإبداع المجدد للحياة ؟

و هل هذا الفن الهابط الذي يقدم لنا اليوم هو انعكاس حقيقي لواقع مجتمعنا أم أنه مجرد رد فعل عليه يدغدغ حالة الحرمان الاجتماعية التي نعيشها بحكم العادات و التقاليد المكبلين بها؟! .