في الرابع عشر من نيسان الماضي بدأ رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس عملية الاصلاح الامني في الاراضي الخاضعة للسلطة والحد من الانتشار الفوضوي للاسلحة ووقف الممارسات العنفية والجرمية التي يقوم بها عناصر بواسطة اسلحة فردية وغير فردية علما ان الهدف من حملهم اياهما كان مواجهة الاحتلال الاسرائيلي لتحرير الارض. اولى الخطوات التي نفذت كانت اختصار التنظيمات الامنية والاستخباراتية التي بلغ عددها ثلاثة عشر ايام الرئيس الراحل ياسر عرفات بثلاثة هي: قوى الامن الوطني وقوى الامن الداخلي والمخابرات العامة. وثانية الخطوات كانت اصدار قانون لتقاعد العسكريين والامنيين وتنفيذه. ولهذا القانون اهداف عدة ابرزها اثنان. الاول، الاستغناء من دون ضجة او ردود فعل عن عدد من القيادات الامنية والعسكرية المسؤولة في شكل او في آخر عن الفساد المستشري داخل الاجهزة والتنظيمات الامنية وعن صراعات النفوذ في ما بينها وعن الفلتان الامني في الاراضي الفلسطينية. والثاني، فتح الباب امام تعيين قيادات عسكرية وامنية جديدة وشابة غير متورطة في الفوضى والفلتان والفساد.

الا ان ذلك كله لم يجعل فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة يشعرون بأن تقدما محسوسا في امنهم اليومي قد تحقق رغم ان موازنة التنظيمات الامنية والعسكرية الرسمية طبعا تبلغ زهاء 504 ملايين دولار اميركي اي ما نسبته 24 في المئة من الموازنة العامة للسلطة. ودفع ذلك المعنيين بالامن الفلسطيني والعاملين لاستتبابه الى البحث في الخطوات الضرورية لتحقيق هذا الهدف. فتوصلوا الى استنتاج يفيد ان النجاح في الموضوع الامني اي في فرض حكم القانون يقتضي معالجة خمس قضايا اساسية هي الآتية:

- الشباب الفلسطيني ودورهم في الفوضى الامنية الحاصلة والذي يمكن ان يتحول دورا اساسيا في عملية ازالة هذه الفوضى. فهؤلاء الشباب الذين ابعدوا من قياداته السياسية والتنظيمية عن اي مسؤولية وفي مقدمها حركة “فتح” قد يكونون “فتحوا على حسابهم” كما يقال، الامر الذي اربك الساحتين الامنية والسياسية في الاراضي الفلسطينية المحتلة، وحل مشكلة هؤلاء الِشباب يكون اولا بتسهيل انخراط “الامنيين” منهم في المؤسسات الامنية الرسمية وبتشجيع السياسيين منهم او بالاحرى المدنيين على الانخراط في العمل السياسي وذلك بعد ازالة الموانع والعوائق المعروفة. وتجاهل حل كهذا يضاعف من حظوظ بقاء الشباب او بالاحرى تحولهم نحو العنف والاعمال غير المشروعة.

- المؤهلات والكفايات المطلوب توافرها في كل العاملين في القطاعات العامة الفلسطينية من سياسية وامنية وخصوصا في اوساط الصفوف الثانية والثالثة والرابعة. فمجموع القوى الامنية الفلسطينية الحالية يبلغ نحو 58 الف عنصر. وذلك عدد اكبر من الذي تحتاج اليه الاراضي الفلسطينية المحتلة. لكن قلة فاعلية معظمهم وانعدام كفايته يجعلان المطلوب من السلطة البحث عن الاهلية والكفاية والفاعلية وليس عن العدد فقط.

- القوانين التي تحكم او بالاحرى تنظم حمل السلاح او اختفاءه في الاراضي الفلسطينية المحتلة. وهي في معظمها ملتبسة او غامضة ربما بسبب الاحتلال والحاجة الى حمل السلاح لمحاربته. وعلى السلطة الوطنية كما على الحكومة الفلسطينية معالجة هذه القضية في حزم وفي سرعة.

- القضاء. لن يتحسن اداء القوى العسكرية والامنية وعملها الا اذا رافقتها اصلاحات في القضاء وله. فاصدار المراسيم لا يكفي ومعه قرارات التوقيف في طمأنة الناس وفي المحافظة على حقوقهم.

- الوضع الاقتصادي الذي يسميه فلسطينيون ومتابعون اجانب كما يجري في الاراضي الفلسطينية المحتلة في "الكابوس". فرواتب عناصر الامن والشرطة وغيرها غير كافية. والوضع الاقتصادي الصعب والمتردي فيها لا بد ان يشجع المصابين به على التحول نحو العنف والجريمة.

هل تكفي المعالجة الناجعة للقضايا الخمس المذكورة اعلاه في توفير الامن لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين؟

متابعو الاوضاع داخل هذه الاراضي المحتلة يجيبون سلبا عن ذلك، فالقضايا الخمس المفصلة اعلاه حقيقية ولا بد من معالجتها. لكنها في الاساس تقنية. والنجاح في ايجاد حلول لها قد يكون ممكنا في “دولة” او في “سلطة” مستقرة وطبيعية. لكن هذا النجاح سيكون مستحيلا في “دولة” غير مستقرة او في “سلطة” تسعى لان تصبح دولة بعد ازالة العائق الاساسي امام ذلك وهو الاحتلال. فالاولوية للاحتلال وازالته في نظر الجميع. لكن هذا الاحتلال يُستعمل ذريعة او حجة لارتكاب نوعين من الاعمال المؤذية للناس والمعطلة في الوقت نفسه لمتابعة المقاومة بقصد التحرير. النوع الاول هو تحقيق المكاسب الخاصة والشخصية بالاستناد الى السلاح والى العقائد على تنوعها. والنوع الثاني هو الخلاف بين الفصائل الفلسطينية الحاملة السلاح والمغطية حمل السلاح، وهذا الخلاف جعل السلطة الوطنية فريقا فيه وخصوصا ان جوهره يدور على امور عدة منها تقويم الوضع الفلسطيني الراهن وتقويم الاوضاع الاقليمية والدولية الراهنة. ومنها ايضا الاهداف النهائية للمقاومة. وفي وضع كهذا لا يعود ممكنا لسلطة هي اساسا تابعة لفريق فلسطيني محدد «كان له في الماضي التمثيل الشعبي الاوسع» ان تفرض نظرتها على الجميع وخصوصا في ظل تنامي الافرقاء المنافسين لفريقها والمختلفين جذريا معهما حول قضايا جوهرية كثيرة.

هل يعني ذلك الاقلاع عن محاولات الاصلاح؟

طبعا لا. لان الفلسطينيين، وخصوصا داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة يمرون اليوم باقسى المراحل واكثرها صعوبة. فهناك انسحاب احادي اسرائيلي مرتقب بل مقرر من غزة وبعض شمال الضفة الغربية. وهناك اصرار اسرائيل على رفض البدء في مفاوضات سلمية حول كل الامور خلافا لما تعلنه وخصوصا من التزام “خريطة الطريق”. وهناك بداية اصطدامات فلسطينية – فلسطينية قد تتحول اذا استمرت ضغوط اسرائيل والخارج الاقليمي والدولي واذا استمر تعنت كل الفصائل على تنوعها واختلافها حربا اهلية. ومواجهة كل ذلك بل وتلافيه لا يمكن ان يتم الا بالحوار والتفاهم والتنازلات المتبادلة.

مصادر
النهار (لبنان)