تنبعث أشباح المرحلة الكولونيالية في أوربا من جديد . لا لتعذب ضمائر الغربيين على ما اقترفوه في العالم الثالث من قتل و إبادة و سرقة و تدمير ، و لا لتقض مضاجعهم صور الضحايا و القتلى و هم يعدون بالملايين . بل على العكس تماماً هي موجة جديدة من تمجيد الكولونيالية و الرسالة التمدينية و الحضارية للغرب أثناء استعماره الشعوب “البدائية غير المتحضرة” و نشره الثقافة و التمدن في تلك الشعوب و الثقافات .

« كانت البداية مع السيد غوردون براون، وزير المالية الحالي والخليفة المحتمل لطوني بلير، في افريقيا الشرقية، من أنه ولّى الزمن الذي كانت بريطانيا مضطرّة فيه للاعتذار عن تاريخها الكولونيالي . لم يكن في الملاحظة أيّ هفوة في الظاهر، خصوصاً أنها أُعطيت لصحيفة “دايلي مايل”، قائدة جوقة إعادة التأهيل هذه، وقبل وقت قصير من انطلاق الحملة الانتخابية في الربيع.

وكان السيد براون، وقبل أربعة أشهر، أجاب على أسئلة الصحيفة نفسها في المتحف البريطاني في لندن ـ مغارة علي بابا التي تذخر بالكنوز المنهوبة من المستعمرات البريطانية السابقة ـ بالقول: “علينا ان نكون فخورين (...) بالإمبراطورية”. حتى بلير نفسه لم يصل الى هذا الحدّ، وكان وافق على حذف جملة مماثلة من إحدى خطاباته الانتخابية في 1997، عام وصوله للمرة الأولى إلى السلطة

في كانون الثاني/يناير، استرجعت الصحافة البريطانية تصريحات السيد براون المذهلة دون أي تعليق. بيد أنّ تأييد وزير المالية، لمّا كان قبل وقت قصير يُعتبر مراجعة تحريفية للتاريخ من قبل اليمين الأكثر تطرّفاً، ما كان ليُخفى على الرأي العام المعنيّ بهذه الرسالة. بالرغم من حماسه النيو ليبرالي وتحالفه مع رئيس الوزراء، حاول الرجل باستمرار إعطاء الانطباع انه يقيم وزناً لمبادئ المساواة والاشتراكية الديموقراطية أكثر من منافسه في الحزب العمّالي الجديد. لا بدّ أن يكون تعاطفه المعلن مع الإمبراطورية»

ثم و بشكل مفاجيء كرت السبحة إلى فرنسا التي بدا غريباً أن تقف هذا الموقف ، لا سيما و أنها عارضت العدوان الأمريكي على العراق وحاولت أن تعطي لنفسها صورة مغايرة عن صورة الغزو و الاستعمار .

لكن و بشكل مفاجيء ،كما قلنا ، أقر البرلمان الفرنسي في 23 شباط فبراير 2005 قانوناً يمجد المرحلة الاستعمارية و الدور الاستعماري الفرنسي في المستعمرات خاصة في شمال افريقيا. تقول مقاطع من القانون :

«إن تاريخ الوجود الفرنسي في الجزائر يتجلى بين صراعين: الحملة الاستعمارية، من 1840 الى 1847، وحرب الاستقلال التي انتهت باتفاقيات إيفيان في عام 1962. خلال هذه المرحلة قدمت الجمهورية على الأرض الجزائرية مهارتها العلمية، التقنية والإدارية، ثقافتها ولغتها، وكثير من الرجال والنساء، غالبا من أوساط متواضعة، جاؤوا من أوروبا كلها ومن كل الطوائف، وأسسوا عائلات في ما كان يعرف بالمقاطعة الفرنسية.لقد تطورت البلاد في قسم كبير منها بفضل شجاعتهم وسعيهم للعمل. لهذا (...) يبدو لنا من المستحب والعدل أن يعترف التمثيل الوطني بإنجازات معظم هؤلاء الرجال والنساء، وجهودهم، حيث مثلوا فرنسا لمدة قرن في الضفة الجنوبية للمتوسط، ودفعوا حياتهم ثمناً لذلك في بعض الأحيان».

وقد استتبع مشروع القانون هذا مادة قدمها النائب من حزب “الاتحاد من أجل حركة شعبية” «الحزب الحاكم الذي يترأسه نيكولا ساركوزي»: «إن الأعمال الإيجابية لمجموع مواطنينا الذين عاشوا في الجزائر طيلة حقبة الوجود الفرنسي معترف بها علانية».

و قد قوبل هذا القانون بالذهول خاصة في الجزائر التي ارتكبت فيها القوة الاستعمارية الفرنسية جرائم إبادة و تدمير لا يمكن حصرها ، و دفعت في حرب استقلالها مليون و نصف شهيد . مما دعا البرلمان الجزائري لإدانة هذا القرار . قال الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في خطاب ألقاه قبل أيام أمام مئات من المحاربين القدامى «نرفض مزاعم الاستعمار.. هل يعقل أن أحدا يذبح شعبا بأكمله ويذبح هوية بأكملها ويغيبها عن الوجود ثم يقول إن هذا العمل كان شيئا إيجابيا؟ هذا يعني أننا وصلنا للوقاحة».

لكن الوقاحة ، التي وصف بها عبد العزيز بو تفليقة هذا السلوك ، كلمة قليلة و لا تكفي للتعبير عن حالة السفالة و الانحطاط الأخلاقي الذي وصل الغرب إليها ......

في ضوء الخلفية السابقة يمكن فهم الاهتمام المبالغ به بإفريقيا و بمشكلة الفقر هناك من قبل مجموعة الدول الثماني الغنية و بشكل خاص من قبل توني بلير. و بالمناسبة كلما سمعت توني بلير يتحدث عن محاربة الفقر في إفريقيا و تخفيض عدد الفقراء تذكرت المقطع اللطيف الذكي الذي أنجزه المبدعان بسام كوسا و فايز قزق حول هذا الموضوع . حيث يتناقشان على طاولة في مقهى حول خبر قرأه أحدهما في الجريدة مفاده أن البنك الدولي ينوي تخفيض الفقر إلى النصف . فنكتشف من بسام كوسا أن ذلك يعني إبادة نصف الفقراء و بالتالي ينخفض عدد الفقراء إلى النصف .

لا ريب و بدون أية ذرة شك ، و على مسؤوليتي الشخصية إن بلير حين يقول إنه سيحارب الفقر في افريقيا فهو يقصد محاربة الفقراء و حين يقول إنه سيقضي على الفقر فهذا يعني القضاء على الفقراء ....................

إن هذا الاهتمام من طوني بلير بأفريقيا يأتي على خلفية إعادة تأهيل الكولونيالية و العودة إلى إيديولوجية تحضير الشعوب المتخلفة البدائية . و كان هذا الأمر قد بدأ بشكل مبكر منذ بدء التدخل العسكري الأمريكي في الصومال ثم في كوسوفو تحت شعارات “التدخل الإنساني”و هذه هي الطبعة المعاصرة من خطاب الكولونيالية التحضيري

و تبع ذلك إصدار أمين عام حلف شمال الأطلسي السابق خافيير سولانا إعلاناً يدافع «عن نمط جديد من الإمبريالية مقبول في عالم حقوق الإنسان والرأي العام الكوسموبوليتي . في الوقت نفسه تقريباً، كان رئيس الوزراء البريطاني يقول، في جلساته الخاصة، أنه مؤيّد للتدخل العسكري في المستعمرات البريطانية السابقة كزيمبابوي وبورما»

إن السجل المروع للاستعمار الغربي للعالم أكبر من أن يروى و أوضح من أن يحجب . لقد أبادوا شعوب قارتين بشكل تام “أمريكا و استراليا” و بشكل جزئي افريقيا بعد أن استنزفوها بتجارة العبيد . و قتلوا الملايين في آسيا إما بشكل مباشر بالمدافع ، أو بشكل غير مباشر عبر نشر الأفيون و تدمير أسس الحياة الاقتصادية للمجتمعات و بالتالي نشر المجاعة و كل ذلك تحت شعارات نشر المدنية و الحضارة و محاربة البربرية . و مع ذلك يعاد تمجيد هذا الدور الدموي التدميري تمهيداً لإعادة إنتاجه في التاريخ المعاصر ، و ما حرب الصومال و كوسوفو و سيراليون إلا خطوات على هذا الطريق . لكن يبقى العراق المحطة الأساسية لإعادة إنتاج الكولونيالية فلولا المقاومة العراقية التي أوقفت هذا المشروع و كبدت دعاته الخسائر البشرية و المادية لكان المشروع قد تسارع ، و لرأيت الجيوش الغربية تسرح و تمرح و تحتل الدول بحجة أن تلك الدولة غير ديمقراطية و الثانية فاشلة و الثالثة لم تفتح أسواقها .

إن العراق هو المحطة الأساسية لهذا المشروع فإن نجح بها سيعمم على كل أنحاء العالم ، و إن فشل و هو صائر إلى فشل أكيد سيتم قبره و دفنه و بعدها ستتجول أشباح ضحايا الكولونيالية في أوربا و أمريكا لتعذب هؤلاء القتلة على ما اقترفوه من جرائم

مصادر
موقع الرأي (سوريا)