عكس الانفراج الذي شهدته الحدود اللبنانية – السورية واعادة فتحها امام الشاحنات في الساعات المنصرمة، ترجمة اولى للتقدم الذي احرزته محادثات رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة في دمشق الاحد الفائت. واستناداً الى مطلعين عن قرب على هذه المحادثات، وعلى الموقف السوري منها، فان اجراءات انفراج اضافية ستظهر في الساعات المقبلة بمبادرة من القيادة السورية قبل ان تتأكد من التطمينات التي قدمها السنيورة الى السوريين.

ومع ان دمشق ادرجت المحادثات مع السنيورة في اطار هواجس امنية رغبت من خلالها في ان تؤكد له انها ليست حجة تتسلح بها لاقفال الحدود، فهي أحاطت هذه الحجة بتوقيت سياسي نقل المشكلة من بُعد امني – حدودي الى آخر سياسي هو مستقبل العلاقات اللبنانية - السورية في مرحلة ما بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان المنصرم ونتائج الانتخابات النيابية. وباسم الهاجس الامني وضع المسؤولون السوريون في تصرف السنيورة معلومات عن ثلاثة اجتماعات عقدت في بيروت وطرابلس لمسؤولين في "الاخوان المسلمين" شارك فيها، الى شخصيات لبنانية معروفة بانتمائها الى تيارات متشددة، معارضون للنظام السوري وملاحقون منه مقيمون خارج لبنان وصلوا اليه اخيراً للتنسيق بغية احداث قلاقل داخل سوريا، تبعاً للمعلومات المتوافرة لدى المسؤولين السوريين.

كذلك ابلغت دمشق الى زائرها معلومات عن تهريب اسلحة وذخائر ومتفجرات الى داخل سوريا عبر الحدود أوجب تشديد اجراءاتها. ولذا احتل هذا الهاجس اولوية المحادثات، وارادت دمشق من خلاله تأكيد جدية مخاوفها التي ربطتها أيضاً بضرورة ايجاد أجهزة أمنية لبنانية فاعلة تحول دون أعمال تهدد الأمن السوري انطلاقاً من الاراضي اللبنانية.

على ان دمشق لم تقارب مخاوفها الامنية والحدودية على انها مشكلة في ذاتها، بل اعتبرت حلها ينبثق من حاجتها الى ضمانات لمعالجة مشكلات سياسية ترتبط اساساً بمستقبل العلاقات بين البلدين. ولذا اعتبر المطلعون على نتائج محادثات دمشق ان انفجار المسألة الحدودية لا يعدو كونه معبراً الى تسوية المشكلة الرئيسية وهي علاقات البلدين.

على ان محادثات رئيس الوزراء اللبناني ذهبت ايضاً الى ابعد من ذلك:

1 - لم يقدم السنيورة اي حل مباشر للمشكلات اللبنانية - السورية التي ترتبت على اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري وتدهور علاقات دمشق بحلفائها السابقين الذي اصبحوا بعد الانتخابات النيابية اصحاب القرار في حكم لبنان. ولذلك فان الهدف الفعلي لهذه الزيارة هو وضع اطار جديد لحوار لبناني - سوري يمهّد لاعادة الثقة بين مسؤولي البلدين. علما ان دمشق التي نادراً ما تثق بمحاوريها بمن فيهم حلفاؤها، خاطبت السنيورة كرئيس للوزراء وكممثل لفريق الغالبية النيابية الذي يترأسه النائب سعد الحريري مما يمكّنه من اعطاء الضمانات الضرورية التي تطلبها.

2 – حاذر السوريون الخوض في تفاصيل مستقبل العلاقات اللبنانية - السورية، الا انهم بدوا مهتمين بالتأكيد ان المرجعية الرسمية والوحيدة لانتظام هذه العلاقة هي المجلس الاعلى السوري – اللبناني. ومن غير ان يكونوا معارضين لاي مراجعة لاي من الاتفاقات المعقودة بين البلدين، فان اي تعديل لهذه ليس شأن الحكومتين اللبنانية والسورية وانما المجلس الاعلى عملاً باحكام المعاهدة بين البلدين التي جعلت من الحكومتين والادارات المعنية مطبخ قرارات يتخذها المجلس الاعلى.

وتبعاً لذلك كان التركيز على اطلاق اللجان المشتركة التي نصت عليها المعاهدة في اكثر من نطاق الا انها لم توضع موضع التنفيذ بسبب وجود الجيش السوري على الاراضي اللبنانية والذي ابدل عمل هذه اللجان بادارة سورية مباشرة للعلاقات بين البلدين.

وهو ما شدد عليه السنيورة عندما اكد لمحاوريه السوريين ان لبنان متمسك بالعلاقات المميزة اللبنانية - السورية، الا انه ضد ادارة سورية للوضع اللبناني قوبلت بانتقادات شتى في السنوات المنصرمة واربكت العلاقات بين البلدين واساءت اليهما معاً. وبات المطلوب تصويب هذه العلاقات وفق الالتزامات المتبادلة حيال المعاهدة الثنائية، وعملاً بما نصّ عليه اتفاق الطائف في تنظيم العلاقات بين البلدين. فكان ان أتفق مبدئياً على تحريك عمل لجان امنية واعلامية واقتصادية بحيث تنعقد دورياً وتعمل على تنفيذ الاتفاقات تلك.

العصا !

كان على دمشق ان تؤكد للسنيورة انها لا تعارض تعديلاً لاتفاقات مشكو منها من اي من الطرفين، ولا تعارض تجميدها اذا كان لبنان يريد ذلك، الا انها ضد تجاهلها كما ان خروج الجيش السوري من لبنان لا يلغي مفاعيلها. بدوره لم يتردد السنيورة في التأكيد للمسؤولين السوريين ايضاً انه ملتزم الموقف الذي كان قد اتخذه الرئيس رفيق الحريري من العلاقات الاقتصادية بين البلدين، بدعوته المتكررة ليس الى التنسيق والتعاون، وانما ايضاً الى التكامل في ما بينهما.

3 – لم يخض المسؤولون السوريون في موضوع القرار 1559 انطلاقاً من كونهم غير معنيين به مذ نفذوا البند المتعلق بهم، وهو الانسحاب الشامل للجيش السوري من الاراضي اللبنانية. ولم يثيروا اي سؤال يتصل بمصير المقاومة وسلاح "حزب الله" تنفيذاً للقرار 1559، عاكسين بذلك وجهة نظر مفادها انهم وجدوا في البيان الوزاري تطمينات مرضية لموقف الحكومة اللبنانية من حماية المقاومة من جهة، ولانهم يريدون ان يظهروا عدم اهتمام مباشر بالوضع الداخلي اللبناني ما دام رئيس الحكومة الزائر اكد لهم استمرار التنسيق مع دمشق في ما يتصل بالسياسة الخارجية، والصراع مع اسرائيل من جهة اخرى. ولم يحل ذلك دون ارتيابهم بما اعتبروه ضغوطاً دولية على لبنان لاستهداف سوريا، فأكد لهم زائرهم ان البيان الوزاري يعكس بوضوح كامل الموقف اللبناني المتضامن مع سوريا.

في حصيلة الامر أستخدمت دمشق بوابة الحدود البرية لدفع الحكومة اللبنانية الجديدة ليس الى التحاور معها فحسب، وانما ايضاً الى ادخالها في فخ ما تراه مخاوف امنية بجعل الحدود سيفاً مصلتاً على السلطة اللبنانية ووسيلة ضغط لا يعكس ظاهرها باطنها.

وعلى غرار التجربة المزمنة والمُرة منذ مطلع الخمسينات حتى عام 1976، عادت الحدود العصا التي تضعها دمشق على طاولة التفاوض مع سلطة لبنانية لم تعد حليفة لها على الطريقة السورية على نحو ما كانت لسنوات طويلة.

مصادر
النهار (لبنان)