تزال القيادة السياسية السورية العليا تعتبر الموضوع الامني مشكلتها الاساسية مع لبنان وربما المبرر الاول لكل المواقف السلبية التي اتخذتها منه بعد انسحابها الكامل من اراضيه في السادس والعشرين من نيسان الماضي، وتاليا للترجمة العملية لهذه المواقف التي تمثلت بالاغلاق شبه التام لمعابرها البرية امام حركة النقل البري اللبناني وبعدد من الممارسات "القانونية" على الحدود البحرية. فرئيس الوزراء محمد ناجي العطري اعتبر قبل مدة قصيرة تطبيق بند في القرار الدولي 1559 ينص على نزع سلاح الميليشيات اللبنانية ("حزب الله") وغير اللبنانية يمس بالامن القومي السوري ويشرّع الساحة اللبنانية امام الموساد الاسرائيلي الذي يستهدف لبنان وسوريا بل العرب جميعهم. وتحدث مسؤولون سوريون آخرون عن لقاء عقده "الاخوان المسلمون" المعروفون بتاريخ صراعهم المستمر مع النظام في دمشق في شمال لبنان وفي حضور مسؤولين لبنانيين. وترفض القيادة المذكورة نفسها الاسباب التي يوردها لبنانيون كثيرون للمواقف السورية السلبية المشار اليها مثل عدم تقبلها حتى الآن الانكفاء عن لبنان والذي فرضه عليها المجتمع الدولي قبل اشهر وبدء استعادته سيادته واستقلاله وديموقراطيته وحريته والذي مس هيبتها الداخلية والعربية والاقليمية كما هدد دورها في المنطقة على نحو كبير.

ما مدى استعداد لبنان الجديد او بالاحرى لبنان الذي يتكون اليوم على قاعدة اتفاق الطائف الذي اوكل اللبنانيون عام 1989 ومعهم المجتمعان العربي والدولي الى سوريا مهمة تطبيقه لمعالجة المشكلة الامنية او الهاجس الامني الذي تؤكد سوريا انه السبب الاول لتردي علاقتها مع لبنان او بالاحرى لتوترها؟

الاستعداد كبير، فالحكومة اللبنانية التي "ألّفها" الرئيس فؤاد السنيورة اكدت في بيانها الوزاري حرصها على ان لا يكون لبنان مقرا او مستقرا لاي عمل يؤذيه او يؤذي سوريا او يؤذي الدول العربية كما صرح في دمشق. ومجلس النواب وافق على ذلك بمنحه الحكومة الثقة باكثرية كبيرة على اساس البيان المذكور. والموافقة نفسها ابداها رئيس الجمهورية العماد اميل لحود بترؤسه جلسة مجلس الوزراء التي أُقر البيان خلالها. لكن ترجمة الاستعداد المشار اليه قد تكون هي المشكلة. فسوريا العسكرية والامنية والسياسية صارت خارج لبنان في صورة تامة او شبه تامة، رغم استمرار وجود حلفاء لها فيه فاعلين سياسيا وامنيا. وليس هناك عند المجتمع الدولي والمجتمع الاقليمي وخصوصا العربي وعند اللبنانيين عموما ما يوحي ان عودتها اليه وعلى النحو الذي كان عليه وجودها فيه ممكنة او مرحب بها. لكن ذلك لا يعوض التعاطي المباشر مع الموضوع الامني الذي كانت تمارسه سوريا والذي اثبت نجاعته وخصوصا بالنسبة اليها. والاجهزة الامنية اللبنانية التي يفترض انها عين لبنان وتاليا عين اشقائه وحلفائه وانها قادرة بهذه الصفة على المحافظة على امن بلادها وامن سوريا، مرتبكة وضائعة وحائرة بسبب "الانقلاب" السياسي الذي بدأ يتكون في لبنان منذ 14 شباط الماضي بل منذ تشرين الاول الماضي والذي بدأ تنفيذه في 26 نيسان الماضي بانسحاب سوريا منه والذي استكمل معظم عناصره في الانتخابات النيابية الاخيرة. الا أن هذا الانقلاب لم يعكس نفسه على الاجهزة. ذلك ان عدم الاستقرار السياسي وتاليا الامني الناجم عن عدم استتباب الانقلاب حال دون اعادة هيكلة الاجهزة الامنية و"تطهيرها" وتاليا اعادتها الى مهمتها الاصلية بعد طول تجاوز لهذه المهمة.

كيف يمكن معالجة المشكلة الامنية او الهمّ الامني اذاً؟

اولا باقتناع سوريا بأن ما حصل لا عودة عنه. ولا يعني ذلك عدم سعي الحكومتين اللبنانية – والسورية وعلى نحو جاد وصادق الى تصحيح العلاقة بين بلديهما بحيث تحفظ المصالح الوطنية لكل منهما وتؤدي في المحصلة الى المحافظة على المصالح القومية. وفي هذا الاطار يأتي تطبيق الاتفاقات المتنوعة الموقعة بين الدولتين منذ مطلع تسعينات القرن الماضي ربما بعد اعادة النظر فيها او في بعضها اذا كانت هذه مشيئتهما معا. وثانيا باقتناع سوريا بالاعتماد على لبنان لحماية امنها فيه ومنه وباقلاعها عن عدم الثقة الا بنفسها في الموضوع الامني. وذلك يعني قيام تنسيق امني واسع بين دمشق وبيروت يتم خلاله تبادل المعلومات والتحليل ومبادرة كل منهما الى العمل كل في دولته لتحقيق الهدف المشترك الذي هو الامن في البلدين. وبديهي ان نجاح تنسيق من هذا النوع لا يمكن ان يتحقق الا اذا قررت سوريا ان ما حصل في لبنان قد حصل رغم مرارته بالنسبة اليها وقرر لبنان ان التوتر في علاقته السورية مرحلة عابرة وان مصالحه المتنوعة تقتضي انفتاحا على سوريا وتعاونا معها الى اقصى الحدود. وكل ذلك من ضمن الثوابت الوطنية اللبنانية وفي مقدمها الاستقلال والسيادة والحرية والديموقراطية.

هل يكفي ذلك كله لبدء حل المشكلة الامنية بين الدولتين الشقيقتين لبنان وسوريا؟

هذه هي الطريق الى ذلك، يجيب متابعون مزمنون لعلاقة الدولتين، لكن لا بد في رأيهم من الاتفاق اولا بين المسؤولين فيهما على وصف موحد او على الاقل مشترك للمشكلة الامنية. وهذا الجواب لا ينبع من تنظير بمقدار ما ينبع من وجود رأي عند البعض في سوريا يعتبر "لجنة التحقيق الدولية" في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري جزءا من المشكلة الامنية اللبنانية – السورية ويدعو الى معالجته او التصدي له. وينبع هذا الرأي من خشية اقدام اللجنة المذكورة على تحميل سوريا او البعض فيها في شكل آخر مسؤولية ما تحقق في حصوله، وخصوصا في ظل التسريبات المتنوعة التي تتحدث عن هذا الامر. الا أن حصر الانطلاق في حل المشكلة الامنية العامة بين لبنان وسوريا في هذا الموضوع لا بد ان يعني في شكل من الاشكال ان احتمال ايجاد حل لها او امكان ايجاد حل لها صعب جداً . فهذه اللجنة دولية قررها مجلس الامن وألّفها. ولا يستطيع لبنان "التصرف" فيها او الاستغناء عنها او وقف عملها او انهاء مهمتها وان شاء البعض منه ذلك. لذلك يفترض في سوريا ان تتعاطى معها بهدوء وبرودة واقعية وان تفصل كل ما يمكن ان ينتج منها عن علاقتها بلبنان، وهذا امر يفترض في اللبنانيين القيام به ايضا. لذلك كله لا يعتقد المتابعون المزمنون انفسهم ان محادثات السنيورة في دمشق الاحد الماضي الاولى له كرئيس حكومة ستكون مثمرة كثيرا، ربما باستثناء احتمال "حلحلة" نسبية في موضوع الاقفال الحدودي البري علما انهم يعتقدون ان المدة التي تفصل اللبنانيين عن موعد اعلان نتائج التحقيق الدولي سواء كان منتصف ايلول المقبل او بعد ذلك التاريخ بثلاثة اشهر( اذا جدد لها مرة واحدة) ستبقى حافلة بعدم استقرار لبناني مقلق وربما مخيف.

مصادر
النهار (لبنان)