لسنا على مفترق الطرق, لبنان وسوريا بمواجهة الحقيقة المطلقة «غورو» العصر لن يدخل دمشق من الخاصرة اللبنانية. لبنان اليوم غير لبنان الأمس, وإن كانت مواقف البعض من الاشقاء توحي بوجود ازمة بين البلدين الشقيقين, إلا ان المسألة لن تبلغ درجة القطيعة التي مهد لها الذين اتبعوا سياسة الاسترضاء للقوى الدولية, فاكتسحوا بخطابهم السياسي والاعلامي التعبوي كل القيم المشتركة التي لا تزال تشكل عامل ضبط وصمام أمان يمكن العودة اليه لترميم كل الانهيارات, والتصدعات التي احدثها القرار 1559.
لنعترف اننا بمواجهة ازمة حادة وجارفة, ازمة ناتجة من الضغوط الخارجية التي تزايدت بعد الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة عقب احتلال العراق. ومع ان الخطر الداهم يؤسس لنقاط الالتقاء والتفاهم والتعاضد, وتوحيد الجهود للخروج بأقل الخسائر, إلا ان استشهاد الرئيس رفيق الحريري خلط الاوراق, واستتبع تداعيات والتباسات اوحت للبعض ان بامكانهم تحقيق انتصارات وهمية على الذات, ونسي هذا البعض او تناسى ان المعركة ليس هذا مكانها او زمانها. وللتذكير ببعض البديهيات نقول ان الوطن الذي حقق اسمى واجمل الانتصارات على العدو الصهيوني بمساندة ودعم الشقيقة سوريا, مستهدف بسياسة التضليل لنقله الى موقع وظيفي جديد من اجل الالتفاف على انتصاره وإجهاض ارادة الصمود والتنمية التي يمتلكها ابناؤه, وتحويله الى اداة ضامنة «لأمن» اسرائيل والنيل من المواقف القومية والوطنية لسوريا.
واذا استثنينا مواقف القوى اللبنانية المعادية عقائدياً وسياسياً لسوريا, والتي ارادت عن قصد تجهيل الشارع وشحنه باتجاه تحميل دمشق كل الاخطاء المشتركة السابقة, فإن الحقيقة الغائبة المغيبة تقول ان هؤلاء كانوا يبحثون عن «شماعة» ليعلقوا عليها كل خيباتهم وعجزهم, وفشلهم في صياغة مشروع وطني للتصدي للاستحقاقات الداخلية, وان كانوا صادقين في ما يقولون, فها هم في موقع صنع القرار, ومن المفترض انهم يملكون اجندة وطنية تعبر عن هواجسهم وافكارهم ومبادئهم التي كان شعارها قبل انسحاب القوات السورية من لبنان رفض الوصاية الاجنبية, وتصحيح الخلل في العلاقات المميزة مع سوريا.
لسنا في مجال المحاسبة او الشماتة او الثأر, ولسنا ايضا في معرض التهرب من المسؤولية, سوريا استجابت لارادة اللبنانيين, ونفذت ما يخصها من مضمون القرار الدولي 1559, وكان هاجسها عودة الوعي الى الشارع اللبناني, والحفاظ على استقراره ودوره الوطني والقومي, وهي مؤمنة بذلك لأنها تراهن على شعب شقيق لا يزال يختزن في وجدانه وذاكرته كل الانجازات السابقة التي حققها بوحدته الوطنية, وبتلاحمه مع الشعب السوري الشقيق, ولكن دمشق تدرك بأنها فقدت الرافعة او القاطرة اللبنانية المطلوبة لمد جسور التواصل, وتفعيل الحوار من اجل اطلاق عملية التصحيح الضامنة لصياغة استراتيجيات سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية مشتركة, او على اقل تقدير وضع كل الاتفاقيات التي ابرمت في السابق موضع التنفيذ.
لا لسنا متشائمين بالرغم من كل مواقف البعض العدائية والتدخلات الخارجية في شؤون لبنان الداخلية. لبنان وطن لجميع ابنائه, وإن كانت بعض السفارات الغربية, تملي على البعض مواقف وخطابات عبثية, إلا انها تجهر بالعداء لشريحة واسعة من الشعب اللبناني, وهي بذلك لا تعمق الشرخ بين سوريا ولبنان فقط, بل بين اللبنانيين انفسهم, وتسعى لجرهم الى تناقضات, ربما يدفع ثمنها الجميع. إلا ان الرهان الحقيقي سيبقى معقوداً على القوى الوطنية اولاً, وعلى مؤسسات صنع القرار ثانياً, وهو رهان مصيري, فما تضمنه بيان حكومة الرئيس فؤاد السنيورة, يحاكي التطلعات الوطنية, ويعبر عن هواجس معظم شرائح الشعب اللبناني الشقيق, وبالتالي يسمح بخلق فضاءات جديدة لحوار داخلي عقلاني, في اطار المؤسسات الدستورية, ويزيل الغطاء عن هواجس الفئات التي تحولت الى ظاهرة صوتية, وتريد من خلال خطابها التعبوي الاستئثار بالدولة وتغيير هويتها.
وبالعودة الى الازمة المصطنعة مع سوريا, نقول ان علاقات الدول والشعوب لا تحددها التصريحات والخطابات غير المسؤولة, وإن كانت المزايدات التي اعتمدها البعض كغطاء لما يضمرون فإننا نقول لهم ان واشنطن التي تعيث في المنطقة فساداً, وتشد على يد شارون الذي يقتل الفلسطينيين ويصادر دولتهم وحقهم في الحرية والاستقلال لم تصبح ملك يمينكم, وباريس هي التي حولت في النصف الاول من القرن العشرين النخب اللبنانية من رواد الفكر والعمل السياسي الوطني, وإحياء التراث العربي, الى ادوات لتوليد العداوات والشكوك بين الطوائف الشركاء في الوطن وداخل كل طائفة في لبنان من جهة, وبين لبنان وسوريا من جهة اخرى, ما جعل بعض هذه النخب تؤكد للجنرال غورو الذي زحف على دمشق من اراضي البلد الشقيق ثقة اللبنانيين بفرنسا, والبقية يعرفونها جيداً حروب اهلية, وصراعات مدمرة وازمات متلاحقة.
مصالح الشعب الواحد في البلدين تحكمها سياسة عقلانية مشتركة تدرأ الخطر الآتي من خارج حدود الدولتين اولاً, ويحكمها ثانياً, الاتفاقات الموقعة التي مدت شرايين التواصل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي, ولقناعة سوريا بأن من سمح لنفسه باغتيال بعض الرموز السياسية والاعلامية, وزرع المتفجرات في امكنة مختلفة من لبنان, ووجه اصابع الاتهام الى سوريا لتفخيخ علاقاتها مع لبنان, وتشويه صورتها امام العالم لايجاد المزيد من الذرائع لتشديد الضغوط الدولية عليها, لن يتردد بالذهاب أبعد من ذلك, وكان لا بد من اتخاذ اجراءات موقتة ريثما تنجلي الحقيقة, وتتمكن الدولة بمؤسساتها السيادية من ملء الفراغ السياسي والامني, وانتاج حالة جديدة تعيد العابثين بأمن الوطن ومصيره الى جادة الصواب. وعند ذلك سيجد الاشقاء في لبنان حكومة وشعباً بأن يد سوريا قيادة وحكومة وشعباً ممدودة للجميع, وابواب دمشق مفتوحة على مصراعيها ليس فقط للشاحنات, بل لكل القلوب والاماني والاحلام المشتركة التي كانت ولا تزال تشكل الحصن الأخير لصمود الأمة العربية الغائبة المغيبة عن حاضرها ومستقبلها ومصيرها الذي يرسم بين جدران البنتاغون.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)