في عام 1973 اقمت دعوة عشاء لشخصية اوروبية في بغداد ، حضرتها شخصيات عراقية اعلامية وفكرية، ودار نقاش حول التقدم في الغرب والتأخر في الشرق، وحينما وصل النقاش ذروته، تحرر الضيف الاوروبي من دبلوماسيته العالية، وطرح سؤالاً يقض مضاجع العرب وهو: «حينما كنا نحن الاوروبيون قروداً نتقافز على الاشجار كانت لديكم واحدة من اعظم امبراطوريات التاريخ علماً وتقدماً، وهي الدولة العباسية ، فماذا جرى لكم ونكصتم وانحدرتم الى هذا الحال؟» ان هذا السؤال مازال يطرق ذهني كلما فكرت في اوضاعنا نحن العرب، ومن المؤكد انه يطرق، انه لم يسحق، اذهان الآف المثقفين وملايين المواطنين العرب، لاننا، وبعكس المنطق التقليدي، بدلاً من ان نؤسس على انجازات دولنا العظمى السابقة ، ابتداءً من البابليين وانتهاء بالعباسيين، ورجوعاً الى ممالك الحضارات الاقدم في اليمن ، لجئنا الى البدء من الصفر! فكانت النتيجة ان غيرنا ، الذي دخل سباق الحضارة بعدنا بآلاف السنين ،غلبنا لانه استفاد من تجارب من سبقه وحولها الى انوار تضيء دربه نحو الامام .

اين الخلل؟

ومن نواتج السؤال السابق اننا شرعنا، خصوصاً منذ هزيمة 1967م ، بالبحث عن اسباب تخلفنا وتراجعنا الى الوراء ، والذي يعد ردة في الواقع، وهو وضع اسوأ من التخلف الطبيعي، لان الاخير نتاج فقر الخبرة وانعدام الماضي الغني بالتجارب والانجازات، فيكون من الطبيعي ان يتخلف الانسان، اما من كان في القمة، وامتلك ناصية العلم والتقدم، ثم فقدها وعاد الى نقطة الصفر، او نقطة قريبة منها، فهو ليس متخلفاً فقط، بل هو مرتد حضارياً . ان من بين اهم اسباب هذه الردة في اوضاعنا وادوارنا اقليمياً وعالمياً ، ظاهرة غياب اوضعف العقلانية في التفكير ، والتي تعبر عن نفسها، في اسوأ تجلياتها، بسلوك لايستهدي ببوصلة ترتيب الاولويات على نحو منطقي وصحيح، فينتهي به المطاف جالساً في زورق تتلاعب به الامواج والانواء وشقوق قاعة، فلايعرف من اين يبدأ عملية، الانقاذ، رغم ان الحفاظ على الوجود هو الاولوية الاولى الغريزية!

تبديات اللاعقلانية

ان اخطر تبديات اللاعقلانية في المجال السياسي، هو ذلك النزوع الجامح والاعمى للاستسلام للعاطفة بدل العقل في تحديد مع من نتعاون : مع الصديق، او مع العدو؟ وفي تشخيص درجات الصداقة والعداء، ثم وضع جدول بالاولويات او الاسبقيات. ان نظرة سريعة لاوضاع الوطن العربي منذ غزو فلسطين وحتى الآن تظهر ان الزعماء العرب، الحكوميين والشعبيين، كانوا، بغالبيتهم الساحقة، يتصرفون وفق منطق لاعقلاني، من حيث تحديد من هو العدو الرئيسي ومن هو العدو الثانوي، لذلك وجدناهم يجرون الأمة كلها الى كوارث انعدام بوصلة العمل الوطني والقومي.

وبعكس الاوروبيين ، مثلاً ،نجد اننا، وان كنا نعرف ، ونعترف، بأن الصهيونية والاستعمار الغربي هما العدوان الرئيسيان للأمة العربية، لم نعمل طبقاً لضرروة هذه المعرفة وذلك الاعتراف، فنجمد خلافاتنا مع الكل ماعدا هذين العدوين ، اذا فشلنا في حلها عبر الحوار. بل، من المؤسف القول، ان الصراعات والخلافات الثانوية طغت على الصراع الاساس، وصرنا نحارب بعضنا البعض الآخر، بمختلف الاسلحة بما في ذلك سفح الدم! .منذ ضياع فلسطين يبحث العرب عن مخرج سليم من مأزق الامة، لكنهم، وبعد مرور اكثر من نصف قرن، مازالوا ليس كالطفل الذي لم يتعلم المشي والنطق بعد، فيمسك بالنار بيديه، ويبتلع الشفرة ! بل مثل من وصل به العمر عتيا وتعلم وكدس الخبرات، لكنه حينما يتعرض لمشكلة خطيرة يضع كل خبرته وسنوات معاناته وممارساته، جانباً ويتصرف كطفل غر لم يتعلم شيئاً!

العراق : أنموذجاً

لئن كنا كعرب نردد : اننا فقدنا فلسطين نتيجة قلة معرفتنا بطبيعة الاستعمار الغربي والصهيونية وتكتيكاتهما ، فأن غزو العراق وتدميره قدم الدليل الحاسم على ان ثمة خللاً في منظومة التفكير لعدد ضخم من الزعماء العرب والنخب المثقفة، لان خبرات اكثر من نصف قرن زخر بالمآسي والخسائر الفادحة، لم تعلم هؤلاء كيفية ترتيب الاولويات من اجل الحفاظ على الوجود والهوية العربيتين . في عام 1990م حينما وقعت ازمة الكويت بادر زعماء عرب للتوسط لحلها سلمياً وضمن الجامعة العربية، ورغم ان ذلك الموقف كان منطقياً وينسجم مع مصالحنا القومية، الا ان (قمة القاهرة) آنذاك لم تتخذ القرار المنطقي، وهو حصر الازمة وحلها ضمن الجامعة العربية ودعم الحل العربي لازمة الكويت، خصوصاً وان اغلبية الحكومات العربية كانت مع ذلك الحل، اضافة الى ان احد طرفي الازمة ، وهو العراق، ابدى استعداده التام للانسحاب من الكويت في اطار حل سلمي ، بل لجأت القمة الى طلب التدخل الدولي، وسط رفض واحتجاجات نصف القادة العرب! لقد اتخذت قرارات تلك القمة التي كانت المقدمة الطبيعية لما يحدث الان ، رغم تحذيرات الكثير من القادة العرب والكتاب، من مغبة طلب الاجنبي، وايضاح ان الاخير اذا جاء لن يخرج، ولن يكتفي بضرب العراق بل سيضرب كل العرب ، بعد ضرب العراق، بما في ذلك حكومات عربية اشتركت في الحرب ضد العراق تحت العلم الامريكي.

والآن، اذا نظرنا الى الخريطة السياسية سنلاحظ ان شعار (الاصلاح في الوطن العربي) ليس سوى الخطوة التالية لخطوة غزو وتدمير العراق ، فالاصلاح يقصد به تغيير هويتنا القومية والدينية والاعتراف الكامل باسرائيل وقبول التحول الى تابع لامريكا ليس بالمعنى السياسي، كما هو الحال الآن، بل بمعنى تفكيك الهوية العربية وتغيير القرآن الكريم طبقاً لمصالح امريكا واسرائيل. وحتى بعد غزو العراق، ورغم افتضاح المخطط الحقيقي ، الصهيوني - الامريكي، القائم على المعاداة المطلقة للعرب فأن حكاماً ومارينز اعلام اعراب يتبارون في الركض نحو التهلكة ! اي بتعيير آخر: يزدادون خدمة لامريكا والصهيوينة وعداء للأمة العربية ! وتزداد كارثة اللاعقلانية حينما نلاحظ ان اغلب النخب السياسية والثقافية العربية، ورغم انها تلوك كلمات مهمة مثل: (حتمية، اقامة جبهة، وطنية) للوقوف (ضد الهجمة الصهيونية- الغربية)، و(ان العدو الرئيس هو الصهيونية والاستعمار، فانها - اي النخب - تمارس سياسة شتم الاستعمار والصهيونية في نفس الوقت الذي تشتم فيه القوى الوطنية الاخرى، وترفض التعاون معها ضد العدو الحقيقي للامة العربية !

غزو العراق صورة كاملة الوضوح ودقيقة الملامح، وصريحة التعبيرات عما يضمره الغرب والصهيونية لكل عربي ، خصوصاً وان تنفيذ خطة محاولة تقسيم العراق، والغاء هويته العربية، وارتكاب جرائم بشعة كما حصل في ابو غريب والفلوجة والنجف الاشرف، والقائم والكرابلة وغيرها، وتدمير المتحف الوطني والمواقع الاثرية التاريخية كبابل ، ومع ذلك نجد عراقيين وعرباً عاجزين عن تجميد الخلافات بينهم من اجل الوقوف موحدين ضد العدو المشترك، الذي كشفت خططه علناً والتي تقوم على تصفية العرب، كل العرب بلا استثناء ، واحداً بعد الاخر!

اذا كانت الزعامات والنخب لاتتحد الآن أمام العدو الرئيس والمشترك، والسكين تقطع الرقاب فعلاً ، فمتى تتفق؟ بعد ان تدفن فلا تجد ناع او ساع؟ اي لعنة هذه التي حلت بشعب يعرف انه سيذبح، ومع ذلك تتصرف زعامات ونخب كأنها غير معنية؟! ان المشكلة هي في عقل هذه الفئات ، وهو عقل حيواني من الدرجة الدنيا، لأن الحيوانات العليا تعرف مصالحها وكيفية حماية ذاتها، وهو عقل مريض مضطرب ومشوش ينساق وراء الانانية الغبية ، فيغلق باب المنطق، ويغلب ممارسات الكسب المباشر، حتى لو كانت نتيجته الحاق الخراب بالامة!

في الغرب ، وبعد ثلاثمائة عام من اللاعقلانية، تعلموا كيف يكونون عقلانيين، وعندها رتبوا الاولويات، لذلك نجد الفرنسي يتعاون مع الامريكي حول غزو العراق حتى لو كانا مختلفين، فتقدموا وتطوروا ، فيما نحن مازلنا اسرى (الانا) ورفض اخي وابن عمي، الذي انافسه واختلف معه، لذلك نتأخر ونرتد ونخسر.