حتى اقرب الناس الى الرئيس فؤاد السنيورة فوجئوا بتفاؤله اللافت قبل زيارته لدمشق وبعدها واولهم زوجته التي كانت كغالبية اللبنانيين تتابع وقائع الزيارة عبر وسائل الاعلام. ولكن النتائج الفورية للزيارة والتي تمثلت بانفراجات واسعة على الحدود، جاءت لتؤكد ان التفاؤل كان في محله ولم يكن مبالغا فيه. فقد تحركت قوافل الشاحنات على الفور وعبرت الحدود في اتجاه الدول العربية مرورا بسوريا، وقد وصل عددها الى نحو 500 شاحنة كانت "متجمدة" على الحدود في "عز" الصيف، وثبت انه يمكن التوفيق بين الاعتبارات الامنية وتسهيل المرور.

واذا كانت ازمة الحدود ليست هي القضية بل احد تجلياتها، فقد شكل حلها مؤشرا لبداية جيدة نحو انفراجات اوسع في الازمة المستجدة في العلاقات بين لبنان وسوريا منذ اشهر ومنذ ما قبل الزلزال الكبير في 14 شباط وما اعقبه من تداعيات وارتدادات.

كان حل "أزمة الشاحنات" بادرة حسن نية من دمشق نحو بيروت ردا على بادرة مماثلة عبّر عنها البيان الوزاري للحكومة الجديدة تجاه دمشق التي سبق ان اظهرت مرونة قبل فتح الحدود امام الشاحنات و"الافراج" عنها: اعلن السنيورة انه سيزور دمشق بعد نيل حكومته الثقة في مجلس النواب، فكان له ما اراد بعد ساعات. الثقة كانت مساء السبت، وصباح الاحد كان في دمشق وقد حدد له موعد مع الرئيس بشار الاسد بعد استقبال رسمي لائق على الحدود تقدمه نظيره السوري ناجي عطري.

كان في استطاعة دمشق ان تقول: اهلا وسهلا ولكن بعد اسبوع، مثلا... بدا واضحا انطلاقا من هذه البداية ان ليس صعبا ان تنحو العلاقات بين البلدين، يوما بعد يوم نحو الافضل، إذا رافق الامر "تبريد" للاجواء في الاتجاهين بعدما بلغ التصعيد ذروته اذ قال الجميع كل ما عندهم... ثمة في الاتجاهين من بلغ حد فقدان التوازن وكأن الامور وصلت الى نقطة اللارجوع. كثيرون في لبنان تعاملوا بهدوء وتعقل مع الانسحاب العسكري والمخابراتي السوري من لبنان، وكثيرون تعاملوا معه بكثير من المبالغة، وكذلك الامر في سوريا. ثمة في البلدين من تعامل، وكل على طريقته ووفق مفاهيمه الخاصة ومصالحه الشخصية، مع الانسحاب على انه هزيمة لسوريا في لبنان. علما ان هذا الانسحاب، ورغم كل الظروف الضاغطة التي رافقته، جاء تنفيذا لقرار شجاع بل تاريخي، للرئيس السوري. نسي كثيرون في لبنان مسؤولياتهم المباشرة عن الوجود العسكري والمخابراتي السوري في بلدهم لاكثر من ربع قرن، ونسي كثيرون في سوريا ان جيشهم لم يدخل لبنان ليبقى فيه الى الابد. اطلقت في تظاهرات بيروت الصاخبة شعارات وصفت بالعنصرية، وكثر الكلام في سوريا على "نكران جميل عند اللبنانيين لتضحيات سوريا في لبنان". كان خطأ سوريا ومعها مؤيدوها في لبنان التعامل مع الانسحاب كهزيمة، وكان خطأ كثيرين في لبنان التعامل مع سوريا بعد سحب جيشها ومخابراتها بشكل اقل ما يقال فيه انه تنكر لايجابيات سوريا وتضحياتٍها في لبنان وان شوهتها ممارسات "مافيوية" مشتركة قامت على الاستغلال وتحقيق المنافع الشخصية تحت شعارات وحدة المسار والمصير، مالا وسلطة.

لا فائدة من الدخول في التفاصيل تجنبا لنكء الجروح، ولا ضرورة لتكرار عرض انعكاسات هذه الاجواء الضاغطة على الشعبين. ينبغي ان تبدأ الصفحة الجديدة بوقف "التعميم" في الاتهامات ومنح شهادات حسن السلوك من هنا او هناك، وبتحييد العمال عن دهاليز "الامن" والسياسة وتركهم وشأنهم يسعون وراء الرزق الحلال. ثمة اجراءات في سوريا وصفت بالروتينية وتتعلق بلبنانيين وغير لبنانيين" يعملون فيها بلا اجازات عمل، بداية جيدة لتطبيق الامر في الاتجاهين قطعا للطريق على كل كلام "عنصري" وكل حديث عن منافسة العمالة السورية للعمال اللبنانيين في ارضهم، بل قطعا للطريق على المصطادين في الماء العكر...

كانت الاخطاء متبادلة منذ البداية. قبل الانسحاب وبعده، وان كانت نقطة ضعف سوريا تجاه الرأي العام اللبناني والسوري وكل العالم في السابق استمرار وجودها العسكري والمخابراتي في لبنان وما رافقه من كلام كثير حول "تدخل سافر في الشؤون اللبنانية الداخلية" وللتدخل وجهان احدهما استدراج "المنتفعين" في لبنان، هذا التدخل في حالات كثيرة كثيرة. بعد الانسحاب سيكون اي تصعيد لبناني ضد سوريا جريمة بحق اللبنانيين قبل السوريين، وبعده يفترض ان يتوقف الحديث في دمشق وفي بعض الاوساط في لبنان عن "التبشير" بمستقبل مظلم وعن شعور بالهزيمة. الانسحاب كان الامر الطبيعي لدورة التاريخ، وبعده كما قبله، من حق السوريين رفض اي تهجم او تعرض لهم في السياسة وغيرها. على اللبنانيين والسوريين فتح صفحة بيضاء ناصعة في علاقاتهم اقله بحكم التاريخ والجغرافيا... ورحمة بالشعبين الشقيقين.

وماذا بعد؟

هكذا اذاً، كانت زيارة فؤاد السنيورة، البداية. كان الغائب الحاضر فيها رفيق الحريري. كان طيفه حاضرا في كل تحركات السنيورة. ألم يستشهد في دمشق بعبارة للرئيس الشهيد ان "لبنان لا يحكم من سوريا ولا يحكم ضد سوريا"؟ وكان لافتا قوله بعد العودة الى بيروت "انني صاحب قضية. اذا كان استمراري في الحكم يخدمها استمر، واذا لا فالمراكز والمواقع لا تعنيني... لست باحثا عن مجد باطل". استقبلته دمشق كرئيس لمجلس الوزراء في لبنان، ولكنها تعرف خلفيته و"ملفه" جيدا. هو اقرب الناس الى رفيق الحريري، وصاحب الفكر القومي العربي. وقد وضع البيان الوزاري لحكومته بـ"نفس عربي" لا يتخلى عنه في اي ظرف. كان الامر موضع تقدير في دمشق وعند الرئيس الاسد تحديدا. لذلك كان الرد على التحية بأحسن منها.

وبديهي الا ينظر الى زيارة السنيورة الدمشقية انها البداية والنهاية. انها البداية فقط، ومن الطبيعي ان تترقب دمشق ما بعدها. "الحملات الاعلامية" كانت موضع نقاش. اكد السنيورة ان الازمة، ازمة مناخ سياسي غير صحي ينبغي ان يعالج فينعكس الامر حكما في الاعلام، الذي يعكس واقعا معينا. والتصعيد بدا متبادلا وليس من طرف واحد، ولا فائدة في الدخول في التفاصيل وفي التعليقات السياسية للاعلام الرسمي في سوريا ولغير الرسمي في لبنان. في رأي مرجع سياسي ان زيارة السنيورة "وهي الاهم ربما لمسؤول لبناني لدمشق، للمرة الاولى لا يعرج في طريق الذهاب والاياب على مركز المخابرات في عنجر بل توجه مباشرة الى موقع القرار في دمشق". هذه الزيارة يفترض ان تستتبع وفي وقت قريب جدا بخطوة اخرى، كأن يدعو السنيورة نظيره السوري لزيارة لبنان، وان يصار الى عقد اجتماعات دورية للمجلس الاعلى اللبناني – السوري، بل الى قمة لبنانية – سورية قريبة. لمَ لا؟ بل لماذا لم تعقد مثل هذه القمة يا ترى ومنذ زمن بعيد رغم كل ما جرى ويجري في لبنان وسوريا والعالم؟

وفي رأي المرجع نفسه ان اشراك معارضين لسوريا في الاتصالات والمناقشات و"تقريبهم" من دمشق، و"تعريفهم" الى المسؤولين فيها "سيكون امرا مفيدا جدا" وان كل الامور يجب ان تحكى بصراحة وصدق، ولا مانع في اعادة النظر في كل الاتفاقات انطلاقا مما قاله الرئيس السنيورة اي "من زاوية تحسين العلاقات وتطويرها نحو الافضل" وبت ملف "المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية" بجرأة وصراحة لمرة واحدة واخيرة، كي لا تبدو "لجنة متابعة المفقودين السوريين في لبنان" كأنها "واحدة بواحدة" على طريقة "خلية حمد" في مقابل "قرنة شهوان" سابقا، او "عين التينة" في مقابل "البريستول"... كل الملفات الشائكة يجب ان تعالج بصدق بعيدا من هواجس القوة والفوقية، من هنا او هناك، ومن حق اهالي "المفقود السوري" كما من حق اهالي "المعتقل اللبناني" معرفة مصيره. فالانسان انسان وكرامته فوق كل اعتبار.

وفي لبنان كما في سوريا الاكثرية تتمنى الصدق والصراحة وبناء علاقات متينة وصادقة، لا يقال عنها في المجالس المغلقة، دمشقية كانت ام بيروتية، خلاف ما يحكى في العلن!

مصادر
النهار (لبنان)