بمتابعة الكلمات التي ألقيت لدى مناقشة البيان الوزاري اللبناني، توضع الأمور في نصابها ويُفرز غثّ المسائل عن سمينها. فالمشكلة الأم في لبنان، وهو ما قاله تنافر المواقف المعلنة، لا تزال كما كانت في 1975 ولا تقلّ عن انعدام الإجماع الوطني والافتقار الى أية وحدة في أي من الأساسيات. فمن جهة، علت المطالبة بالعفو عن «أهلنا» ممن لجأوا الى اسرائيل بعد انسحابها من الجنوب في 2000، وبالإفراج عمن لا يزالون في المعتقلات السورية واسترداد جثث الذين قضوا منهم. ومن جهة ثانية، دينت المطالبة بالعفو عن «العملاء» وخُوّنت، كما رُفع الاتفاق مع دمشق، وبالشروط التي تريدها، الى أولوية الأولويات.

ومن ناحية، تألفت اللغة السياسية من تعابير تدور حول وحدة الدولة وعدم جواز الازدواج في السلاح وفي الشرعية، فضلاً عن التنبيه من «الجزر الأمنية» واستمرارها. ومن ناحية أخرى، تشكّلت اللغة السياسية من مفردات الصراع مع اسرائيل والمقاومة والممانعة، فحين كُشف عن مخزن أسلحة اعتُقل صاحبه رُفعت صور للمعتقل بصفته مقاوماً لإسرائيل.

ولم يسلم النقاش من عودة الى أصول التأويل، فإذا بنا نتذكّر وجود روايتين عن أسباب حرب 1975 وما تلاها، وموقفين من العلاقة بالمنطقة وبالفلسطينيين والسوريين والاسرائيليين. فكأنما التداول البرلماني إيذان بانفجار المكبوت الذي تواطأت السنوات الماضية على كبته لمصلحة رواية واحدة لا يجوز أن يرقى اليها الشك.

ونعرف ان الحكومة الجديدة نفسها تضم جنباً الى جنب بعض المعبّرين عن هذا الافتراق في النظر ممن لا يقتصرون على التيار العوني المعارض. ونعرف، تالياً، ان البيان الحكومي انما تجاهل الاشارة الى مسائل أساسية كي لا يظهر افتراق كهذا على السطح وتغدو الحكومة نفسها مهمة مستحيلة.

والحال ان اثنين من أبرز مكوّنات 14 آذار (مارس) جرفهما الفرز الطائفي، أو إعادة تدوير المطالب الوطنية طائفياً، فتمسك أحدهما (عون) بالسيادة دون نفض الأجهزة الأمنيّة، وأصرّ الثاني (جنبلاط) على نفض الأجهزة مع المراوغة في موضوع السيادة. هكذا بد المطلبان المحقّان ناقصين، بل عرضة للنفي الذاتي لأن نظاماً سيداً لا يقوم من غير أدوات جديدة سيدة، فيما تغيير هذه الأخيرة وحدها مجرد تعديل تقني يستأنف الماضي بوجوه أخرى.

ويبقى الافتقار الى الاجماع المسؤول الأول عن تعطيل السياسة، ومن ثم عن إبقاء لبنان «ساحة» للدول والقوى التي تتنازع في ما بينها به وعلى أرضه. وهو، في آخر المطاف، السبب في ظاهرات تمتد من التدهور الأمني الى الحرب، مروراً بالاغتيالات. وهو الحائل دون تشكّل سلطة فعلية حيلولته دون بيان وزاري يسمّي الأشياء بأسمائها.

ولبنان، للمرة المليون، ليس، بطبيعته وتكوينه وتعدد طوائفه، كياناً ايديولوجياً. ومن ثم، فإن سَوقه في اتجاه معادٍ بالمطلق لطرف ما، أي طرف، يخلّ باحتمال توصله الى إجماع تسووي. والشيء نفسه يصحّ في اعتماده لغة تسمي البعض «عملاء» والبعض «وطنيين»، فيما لكل جماعة قاموس يعرّف المعاني على نحو يغاير تعريفها في قاموس جماعة أخرى.

وأسوأ من كل ما عداه أن ما يحدث اليوم لا يحدث في ظل مشروع عروبي صاعد، كوحدة سورية – مصرية، أو مقاومة فلسطينية، مما ساد الظن، ذات مرة، انهما جسور خلاص مؤكد للمنطقة كلها. ذاك أن الأخيرة تفرّ بطرق شتى من مواجهات جُرّبت وانتهت الى كوارث، ولم يبق في الساحة سوى مجموعات من الإرهابيين ومفاوضات متعثرة حول التخصيب النووي الايراني، يُراد للبنانيين أن يُربطوا بهم وبها، حاضراً ومستقبلاً.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)