لم يعد خافياً على أحد أن الأزمة الحدودية اللبنانية – السورية التي سويت أخيراً بعد زيارة رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة الى دمشق، كانت في جوهرها سياسية بامتياز، والاعتبارت الأمنية ما كانت سوى أداة للضغط على لبنان وجرّه الى التفاوض حول طبيعة المرحلة السياسية المقبلة، في ضوء المتغيرات السياسية التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

وأدت المحادثات التي أجراها السنيورة في دمشق الى تنفيس أجواء الاحتقان من خلال إيجاد حل لتسهيل عبور الشاحنات عبر البر السوري الى دول الخليج العربي، اضافة الى انها مهدت الطريق أمام إعادة النظر في عدد من الاتفاقات المعقودة بين البلدين انسجاماً مع معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق، خصوصاً ان الجانبين يبديان ملاحظات على مضمونها ويقترحان ايجاد تسوية تعيد التوازن اليها.

وبحسب مصادر وزارية، فإن الزيارة حققت أول احتكاك لبناني – سوري على صعيد رئاسة الحكومة في الوقت الذي لم تنقطع الاتصالات الاسبوعية بين الرئيسين إميل لحود وبشار الأسد، اضافة الى انها أفسحت في المجال أمام مناقشة النقاط العالقة.

ورأت المصادر الوزارية ان مستقبل العلاقات بين البلدين لا تمكن مناقشته تحت الضغط الاقتصادي أو الأمني، وبالتالي لم يكن من مفر للتهدئة بدءاً من حل الاشكالية التي سميت بالأزمة الحدودية في مقابل الرغبة التي اظهرتها أخيراً الغالبية النيابية بوقف أي كلام تصعيدي ضد سورية اعتقاداً منها بأن آن الأوان لإعطاء فرصة لرئيس الحكومة للبحث في نقاط العلاقة بين البلدين في أجواء باردة.

وإذ اعترفت المصادر بأن الحوار السوري – اللبناني الذي دشنه السنيورة في زيارته الى دمشق، يحتاج الى مزيد من الوقت نظراً لأن الاشكالية التي باتت تضرب العلاقة وتهددها مضى عليها أكثر من ربع قرن وبالتالي لا يمكن تسويتها على وجه السرعة، قالت في المقابل ان الاختلاف السوري – اللبناني وإن كان موجوداً ويحتاج بالدرجة الأولى الى مبادرة من البلدين تبدأ لدى الشقيق الأكبر للبنان، أي سورية، فإن القوى الحريصة على اعادة الاعتبار للعلاقة ترفض منذ الآن استخدام الساحة اللبنانية كأداة لاستهداف دمشق.

وأضافت ان طلب لبنان وإلحاحه على ايجاد تسوية للعلاقة يعنيان انه ليس على استعداد للانخراط في مشاريع تقلق سورية أو تستهدفها من جانب المجتمع الدولي، وانه يتطلع الى اداء دمشق حيال هذا البلد على خلفية تحديد الأسباب التي كانت وراء تأزم العلاقة والتي لا تعود الى الموقف من القرار 1559 وإنما الى ربع قرن من الممارسات التي استعجلت تطبيق الشق السوري من القرار.

ولفتت المصادر الى انها تتمنى على دمشق ان تسارع الى التأسيس لخطاب سوري جديد باتجاه لبنان مستفيدة من تقويمها الموضوعي للحقبة السابقة التي مرت فيها العلاقة والتي كانت وراء تغليب الأمن على كل ما عداه من علاقات سياسية واقتصادية، مشيرة الى ان الإعلام السوري الرسمي أو شبه الرسمي أخفق في تظهير موقف إن لم نقل انه أسهم في إضعافه. وأكدت ان لعامل الوقت دوراً في إعادة انتاج علاقة جديدة و «إن كنا على يقين بأن لنتائج التحقيق دوراً في تحديد مسارها المستقبلي تماماً كدوره في رسم حدود العلاقات اللبنانية – اللبنانية وتحديداً بين تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، ورئاسة الجمهورية».

وتابعت: «ان البعض كان سارع الى القول ان دمشق أخذت تضغط في كل الاتجاهات بغية التفاوض مع «الأصيل»، أي الحريري حول مستقبل علاقتها بأكبر قوة سياسية بدلاً من التوجه الى الوكيل، والمقصود به هنا الرئيس السنيورة».

واعتبرت ان «من الخطأ الاستمرار في تأزيم العلاقة والتصوير للرأي العام بأن حلها يكمن في بدء حوار مباشر بين دمشق والحريري، وقالت ان الأخير غير مستعد في الوقت الحاضر للقيام بأي مبادرة ما لم يظهر التحقيق الدولي في جريمة اغتيال والده الشهيد الرئيس رفيق الحريري حقيقة الاغتيال، لكن هذا لا يمنع وضع اليد على الجرح اللبناني – السوري من خلال اجراء مقاربة مشتركة يمكن ان تُسرع عملية انتاج علاقة متوازنة، خصوصاً ان السنيورة يستمد قوته من الغالبية النيابية من جهة ومن كتلة المستقبل على وجه الخصوص».

ورأت المصادر ان من نتائج الانتخابات النيابية، العودة الى تعويم دور المؤسسات كناظم وحيد للعلاقة اللبنانية – السورية بخلاف ما كان يجري في السابق، إذ كان رئيس الجمهورية إميل لحود وحده يختزل هذه العلاقة الى جانب دور موازٍ للادارات الأمنية، «فقواعد اللعبة، أكانت داخلية أمو متصلة بملف العلاقة الثنائية، قد تغيرت ولم يعد في مقدور لحود وبتوافق سوري ان ينوب عن الجميع في تحديد سقفها السياسي، كما ان دمشق بدأت تدرك انه من غير الجائز استعادة دورها السابق وكأن شيئاً لم يحصل في البلد ويستدعي اعترافاً سورياً بحصول اخطاء وتجاوزات قراراً لبنانياً بأنها تسببت في عدم تقديم العلاقة على انها القدوة للآخرين وخصوصاً الدول العربية».

واعتبرت المصادر ان القفز فوق المعطيات السياسية الجديدة أو ادارة الظهر لها، لن يجدي نفعاً في تنقية العلاقة من الشوائب بعد انحسار النفوذ السوري في بيروت وغياب أبرز الوجوه الحليفة لدمشق عن الحياة السياسية من خلال البرلمان. هذا اذا استثنينا «حزب الله» وحركة «أمل» اللذين نجحا في إثبات حضورهما القوي وتجنبا معاً الزج بهما كطرف في الفرز السياسي الجديد.

ورأت ان الحزب والحركة كانا أول من ميّزا نفسيهما عن الآخرين من دون أن يعني ذلك انهما يتنكران للعلاقة مع سورية التي تسعى اليها قوى أساسية انما على قاعدة طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة تغيب عنها القوى التي بدا من خلال الانتخابات انها منتفخة ولم تحسن توظيف الدعم السوري لها في ضوء التحول الحاصل على الساحة المحلية الذي يستدعي من دمشق ان تأخذه في الاعتبار من أجل استرداد العلاقة بعد الانتكاسة الكبيرة التي منيت بها.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)