يكاد يكون مستحيلاً من الناحية الواقعية ان يُعاد حصر العلاقات اللبنانية – السورية بعد كل الزلازل التي عصفت بها في الاشهر الاخيرة، بالاتفاقات الثنائية المبرمة بين البلدين. بل ان حصر هذه العلاقات التي عرفت انقلابا هستيريا مباغتا بين ليلة وضحاها، بالعودة الى النصوص هو اشبه ما يكون بادخال جمل في خرم إبرة لان ما كان في 15 عاما من "تفلت" عن القواعد والاصول التي ترعى علاقة دولة بدولة، هو اشبه بالسباحة المطلقة خارج اي فلك ناظم ومنظّم وراع لعلاقات "ثنائية". فلم تكن هناك ثنائية في اي شكل من الاشكال المعروفة في القانون الدولي ولا في علاقات الدول في ما بينها. ولا يُسأل لبنان وحكامه وسوريا وحكامها فقط عن مسؤولية ترك 15 عاما من هذا "الفلتان"، بل يُسأل بالمقدار نفسه من المسؤولية واكثر ربما المجتمع الدولي الذي تعامل مع هذا الواقع بخبث مفرط وسلّم به لمصالح لا تمت الى المصلحة اللبنانية باي صلة.

ولعل استعادة هذه الحقيقة التي لا مجال لان يجادل فيها اثنان تصبح امرا حتميا واساسيا اذا اريد الآن فعلا للعلاقات اللبنانية – السورية ان تدخل حيزا تاريخيا حقيقيا بات قدرا لا مفر منه لكل من لبنان وسوريا في معزل عن منطق التحارب بالمناورات والخداع والخبث والتكاذب بعدما كادت الاشهر الاخيرة تزلزل مصير كليهما ولا تزال تنذر بالمزيد.

فالعودة الى "تفعيل" مجموعة ضخمة من الاتفاقات الثنائية التي أبرمت منذ عام 1991 لا يفترض ان تمرّ كوصفة سحرية لمعالجة تداعيات الزلزال من دون التمعن بمجمومعة حقائق خفية ترتبط بهذه العودة وتوجب على الحكومة اللبنانية تحديدا ان تصارح الرأي العام اللبناني بها بعدما نالت الثقة على اساس التزام هذه الاتفاقات.

وهذا الالتزام يعني اول ما يعنيه ان الاتفاقات لم تطبّق يوما او انها نفذت بهامش جزئي صغير، وتاليا فان الحقيقة السياسية الكبرى المتصلة بعدم تنفيذ الاتفاقات في السنوات الماضية تكشف ان سوريا لم تكن في حاجة الى تنفيذها في حقبة امساكها المباشر بالوضع اللبناني سياسيا وعسكريا واستخباراتيا، وان هذه الاتفاقات وضعت تحوطا لحقبة ما بعد الخروج السوري من لبنان، والا لماذا تساهلت دمشق في عز امساكها بلبنان حيال عدم تطبيق الاتفاقات معه؟ وتبعا لذلك فان الحرب الكلامية التي سبقت زيارة رئيس الحكومة فؤاد السنيورة لدمشق وتصاعدت معها اصوات سورية ولبنانية مطالبة بالغاء الاتفاقات لم تكن اكثر من تمهيد للعودة اليها وتعويمها باعتبارها الممر الاجباري لمسيرة الالف ميل في تطبيع العلاقات المتأزمة، وكما ان حكومة السنيورة لم يكن في امكانها تجاوز هذه الاتفاقات او المضي في مغامرة الغائها او تعديلها فورا من دون تطبيع لئلا تعتبر دمشق ذلك اشهار حرب عليها، كذلك دمشق لم يكن في امكانها المضي بعيدا في مغامرة التخلي عن هذا "القرش الابيض المكنوز لليوم الاسود".

الامر الثاني الابعد مدى والاكثر اهمية في سابقه هو ان "ما بدأ" في دمشق بين المسؤولين السوريين والرئيس السنيورة ليس اول حوار سوري – لبناني صرف بعد الانسحاب السوري من لبنان، بل هو افتتاح لمفاوضات "متعددة الطرف" سيجد رئيس الحكومة اللبناني نفسه مضطرا او مختارا الى ان يضطلع فيها بدور المفاوض بالواسطة عن بلاده بصفته المزدوجة حكوميا وسياسيا وكذلك عن "دول ثالثة".

فدمشق لم تخف عشية استقبالها للسنيورة شكوكها في قدرته على التوصل الى حلول للازمة لانها تنظر الى الغالبية النيابية والحكومية الجديدة باعتبارها حليفة الاميركيين والفرنسيين. واذا كانت خطوة اعادة تسهيل عبور الشاحنات على الحدود اللبنانية السورية شكلت "دفعة على الحساب" او تسليفا فوريا للسنيورة، فان اعادة دمشق تذكير رئيس الحكومة بالتزاماته تعني من المقلب الآخر انها تنتظر من السلطة الجديدة ما يتيح لها "تفحص" "الموجودات" الاميركية والفرنسية في كل اجراء او قرار جديد حيال سوريا.

وبمعنى اوضح فان ثمة ما يبعث على الايحاء ان "حوارا" بالواسطة بين سوريا وكل من واشنطن وفرنسا قد يكون من وجوه "مهمات" مفروضة على السنيورة ولو عبر عنوان تفعيل الاتفاقات الثنائية لان اي تطور يصعب عزله عن مناخ الصراع العنيف الدائر بين سوريا وكل من اميركا وفرنسا في هذه الظروف. ولذلك تبدو كلمة "تفعيل" موغلة في "التواضع" امام الحقائق المعقدة التي بدأت تتصاعد مع هذا النوع من المفاوضات القاسية والصعبة.

مصادر
النهار (لبنان)