بمقدار ما يبدو الرئيس اميل لحود محظوظاً في استمراره في منصبه بفعل تناقض المواقف السياسية المحيطة به، فان الرئيس فؤاد السنيورة لا يتمتع بحظ مماثل قاده الى رئاسة الحكومة. وبهذا اختلف موقع كل منهما. وعلى غرار تجربة حكومة الرئيس رشيد كرامي عام 1984 التي اجلست الى طاولة مجلس الوزراء اعداء الرئيس امين الجميل آنذاك الوزيرين نبيه بري ووليد جنبلاط اللذين قادا انتفاضات عسكرية لاسقاط عهده ثم رضخا لفكرة التعايش معه وهو على رأس مجلس الوزراء. كذلك هي حال حكومة السنيورة التي ادخلت الى طاولة مجلس الوزراء خصوماً، وبينهم مَن صنف نفسه عدواً شخصياً، لرئيس الجمهورية، مما اعاد بناء توازن سياسي جديد في البلاد.

وكما تخلى بري وجنبلاط عام 1984 بناء على طلب سوري عن دعوة الجميل الى الاستقالة او تقصير ولايته، فان معارضي لحود في مجلس الوزراء قدموا اخيرا تنازلين: اداروا ظهرهم لمطالبتهم السابقة بتنحية رئيس الجمهورية، وانتقلوا الى دمشق لطمأنتها الى استمرار "العلاقات المميزة" بين البلدين والمضي في التزام الاتفاقات الثنائية معها بعد خروج الجيش السوري من لبنان. اولى مظاهر التطبيع مع لحود ودمشق ان المتصلبين في حكومة السنيورة لم يعد يحملّون سوريا المسؤولية السياسية عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري واوقفوا الحديث عن "الجهاز الامني اللبناني – السوري المشترك".

على هذا النحو ارتسمت حتى الآن على الاقل مرحلة ولاية السنيورة في رئاسة الحكومة والتي عليها السهر على توازن سياسي جديداً أخذ في الاعتبار الانتصار الكبير للمعارضة في الانتخابات النيابية من غير ان يكبّد الموالين السابقين الهزيمة الكاملة. واطلق التوازن الجديد للغالبية النيابية برئاسة النائب سعد الحريري يدها في السيطرة على الاكثرية المطلقة في مجلس النواب واكثرية الثلثين في مجلس الوزراء، ولكن من غير ان يطلق يدها في حكم لبنان. فاخفقت السلطة الجديدة، او تكاد، في ان تطبق على نفسها القاعدة التي فرضتها دمشق على اللبنانيين ثلاث مرات على التوالي منذ عام 1992، وهي ان مَن يربح الانتخابات النيابية يربح حكم لبنان.

اما هذا الاخفاق فيكمن في الآتي:

– التقاط رئيس الجمهورية انفاسه مجدداً لمجرد التسليم له بالاستمرار في ولايته الممدة حتى عام 2007. وخلافاً لما بدا عليه في ولايته الاولى قوياً في الظاهر يضمر ضعفاً حقيقياً كان يعوضه اياه السوريون، فان ضعفه الظاهر اليوم يضمر قوة حقيقية يستمدها من التوازن السياسي الجديد في السلطة لا من السوريين.

ولعل ابرز عناصر قوة لحود التطابق في الموقف بينه وبين الفريق السياسي المؤيد للسنيورة من القرار 1559 وحماية المقاومة. اذ يوم رفضه لحود عوّل هذا الفريق عليه عندما نادى بالانسحاب الشامل للجيش السوري من لبنان تنفيذاً لهذا القرار. وتالياً بات "حزب الله" قاسماً مشتركاً بين السنيورة وفريقه ولحود. واستناداً الى هذا التطابق، الى ضمانات اخرى حصل عليها الحزب من السنيورة، امتلك رئيس الوزراء غالبية الثلثين التي تبدو فاعليتها الآن نظرية اكثر منها سلاحاً يُشهر في وجه رئيس الجمهورية.

– رغم النجاح الذي ابرزته زيارة السنيورة لدمشق الاحد الفائت (31 تموز)، فان مغزاها الجدي يتجاوز الاعتراف برئيس الوزراء اللبناني محاوراً للقيادة السورية، الى تحديد وجهة علاقة الحريري بدمشق ما دامت هذه تستقبل السنيورة وتخاطبه بصفتيه: الدستورية رئيساً للحكومة، والسياسية ممثلاً لتيار الحريري في السلطة.

ومع ان من المبكر الحديث عن حوار مباشر بين الحريري ودمشق، فان حواراً كهذا سيكون حتمياً في وقت لاحق ضماناً لنجاح التفاوض بين دمشق والسنيورة. وتالياً فان اي خطوة تتصل بحوار ما بين هذين الطرفين تفترض اولاً انتظار صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس الراحل وتحديد مسؤولية دمشق حيال هذه الجريمة جزائياً او سياسياً. فاذا اسفرت نتائج التحقيق عن براءتها من دور ما فان حواراً مباشراً بين سوريا والحريري سيحصل حتماً. وهو امر يقود عندئذ الى تمييز بين المرجعية الدستورية للسلطة التي يمثلها السنيورة، والمرجعية السياسية التي يمثلها الحريري.

– لم تشر اعادة فتح الحدود السورية – اللبنانية الى حلّ المشكلات التي تسبب بها خروج الجيش السوري في لبنان على نحو اشعر سوريا انه حصل بطريقة مذلّة من جهة، وان هذا الخروج وضع المجلس الاعلى السوري – اللبناني والاتفاقات الثنائية في مهب الريح من جهة اخرى. وهي في واقع الامر الاسباب الفعلية لاعادة بعث "الخشبة" منذ رفعت للمرة الاخيرة في 17 آب 1973.

ولكن ذلك يشير كذلك الى ان سوريا لم تعد تجد الا في المجلس الاعلى والاتفاقات الثنائية التي ابرمتها في ظل وجود جيشها في لبنان الضمان الفعلي لدورها السياسي والامني غير المباشر في هذا البلد. ولذا لم يتعدَّ فتح الحدود الاثنين الفائت كونه تذكيراً لرئيس الوزراء بالضمانات التي قدمها في دمشق ولا تقتصر على المسألتين الحدودية (منع تهريب اسلحة ومتفجرات الى سوريا)، والامنية (منع اجتماعات المعارضة السورية في لبنان)، وانما تتعداها ايضا الى طلب وقف الحملات التي تستهدفها من وسائل الاعلام التابعة للحريري. الامر الذي من شأنه ان يرصد حقيقة موقف رئيس الغالبية النيابية من المحادثات التي اجراها السنيورة في دمشق، والضمانات التي نقلها اساساً من بيروت، والوجهة التي يمكن الحريري ان يسلكها في مقاربة علاقة الحكومة اللبنانية بسوريا.

وفي اي حال فان حواراً بين دمشق والسنيورة او بينها والحريري لا يمر حكماً بنبرة "14 آذار"، ان لم يكن يحتاج الى لهجة "8 آذار".

والواضح ان السنيورة مهّد للمقاربة المطلوبة بان انطلق في محادثات دمشق من ابداء لبنان تمسكه بالعلاقات المميزة والتزامه الاتفاقات الثنائية. ولا يعني ذلك للسوريين الا تسليم السلطة اللبنانية الجديدة باستمرار المصالح السورية في لبنان وتأثيرها في توجيه خيارات السياسة الخارجية للبنان، وحماية مواقع من تبقى من حلفائها.

اما دون هذه فوضع اللبنانيين جميعاً، لا حكومتهم فحسب، امام امتحان "الخشبة" مجدداً.

مصادر
النهار (لبنان)