بعد ساعات قليلة من نيل حكومته «الثقة النيابية», حصل رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة على «ثقة ثانية» من سوريا, كانت اولى نتائجها اغلاق ملف الحدود, رغم وجود عدد من الملفات العالقة التي ما زالت مفتوحة امام المعالجات المنتظرة بين الدولتين.

بـ«قلب مفتوح وأيد ممدوة» استقبلت سوريا رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة, الذي زارها بعد نيله ثقة المجلس النيابي, لطمأنة «الجارة الشقيقة», بأن لبنان باق على عهد العروبة, و«لن يكون ممراً ولا مستقراً لأي تنظيم أو قوة أو دولة تستهدف المساس بأمنه أو أمن سوريا» كما جاء في البيان الوزاري. وركز الجانب السوري على معرفة مدى «قدرة» الحكومة اللبنانية الجديدة على الالتزام به.

هل تفتح الثقة المستعادة صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين, تستفيد من أخطاء الماضي, أم أنها محاولة برسم المستقبل الواقع تحت تأثير الضغط الخارجي؟
لبنان المكشوف أمنياً, كما وصفه محلل سياسي لبناني, مصدر قلق كبير لسوريا بعد الانسحاب, برز ذلك بوضوح خلال زيارة السنيورة إلى دمشق. فقد تحدث رئيس الحكومة السورية محمد ناجي عطري عن وجود معلومات عن انعقاد اجتماع للاخوان المسلمين في شمال لبنان. وكانت الصحافة الرسمية السورية قد استبقت الزيارة بإثارة هذا الموضوع, وتبين من طريقة الطرح السورية أن مستقبل العلاقات بين البلدين مرتبط أولا بالملف الأمني. ما يفهم على ضوئه تصريح الوزير الشرع في وقت سابق: «الاطمئنان الأمني يعني الاطمئنان السياسي», ويفهم منه أيضاً الأسباب غير المعلنة لتشديد الإجراءات على الحدود, التي أدت إلى إغلاقها لأسابيع عدة, فلم يكن المقصود أمن الحدود وتفتيش الشاحنات وحسب, وإنما مستقبل التعاون الأمني بين البلدين, وضمان ألا يتحول لبنان إلى قناة تعبر من خلالها محاولات زعزعة الاستقرار إلى الداخل السوري, خصوصا أن أطرافاً دولية عديدة لا يستبعد أن تشجعها ضمن الفوضى الحاصلة اليوم. ورأى مراقبون أنه كان صعباً على الجانب السوري طرح هذه المخاوف للنقاش مباشرة مع الجانب اللبناني بعد الانسحاب السوري الذي تم تحت الضغط الدولي وفي ظل هياج لبناني شعبي, وتثوير إعلامي ضد سوريا, وأيضاً قبل تشكيل حكومة جديدة قادرة على تمثيل الجانب اللبناني. من هنا كان التأكيد السوري على أن «لا حنين للعودة إلى الماضي وممارسة سوريا لدور إقليمي عبر لبنان» لكن لا بد من إيجاد صيغة جديدة للعلاقات تضمن حفاظ البلدين على أمنهما.

الأمن والدفاع

تناولت محادثات السنيورة مع المسؤولين السوريين سياسة الأمن والدفاع أولا, ومن ثم الشؤون الأخرى الاقتصادية والاجتماعية دونما مشاكل مستعصية, بعدما تم الاتفاق على الموضوع الأمني, وهو ما أكدته النتائج الفورية الإيجابية للزيارة. ولم يكد السنيورة ينهي زيارته حتى عادت الحركة إلى الحدود, لتنهي مأساة انتظار مئات السائقين, وخلال يومين عبرت أكثر من 500 شاحنة وبراد الحدود السورية, من نقطة/المصنع ­ جديدة يابوس/ وحوالى 970 شاحنة وبراداً استهلكت أسبوعاً لتعبر نقطة/العبودية­ الدبوسية/ بسبب طبيعة الطريق الدولية الضيقة التي لا تسمح بعبور أكثر من شاحنة ذهاباً وإياباً, كما توافد التجار السوريون إلى منطقة البقاع لشراء المحاصيل الزراعية.

وبهذا تكون سوريا قد أوفت بوعدها للرئيس السنيورة بإعادة الحركة إلى الحدود أفضل مما كانت عليه, وبدوره وعدها بالتحقيق في صحة المعلومات حول نشاط «الإخوان المسلمين» في لبنان. وسرعان ما نقلت وسائل الإعلام عن مصادر إسلامية لبنانية واسعة الاطلاع أن الموقف السوري سببه التباس في الشخصية بين المراقب العام للإخوان في سوريا علي صدر الدين البيانوني المنفي في لندن وبين شقيقه أبو الفتح البيانوني الذي يعيش بشكل طبيعي في حلب وزار بيروت بدعوة من «جمعية الاتحاد الإسلامي» التي يرأسها الشيخ حسن قاطرجي حيث ألقى محاضرة, ولم يُجْرِ خلالها أي لقاءات ذات طابع سياسي. كما أكد وزير الإعلام اللبناني غازي العريضي أن «القضية تتعلق بمحاضرة ألقاها أحد المسؤولين وقد أتى إلى لبنان من سوريا عبر الحدود» معتبراً أن المهم تشديد لبنان على ما جاء في البيان الوزاري بأن «لبنان لن يكون منطلقاً, أو مكاناً لأي عمل عدائي ضد سوريا».

أياً كانت صحة المعلومات في ما يتعلق بنشاط «جماعة الإخوان المسلمين» التي يحظرها القانون السوري, ويعتبر التعامل معها جريمة, وخطاً أحمر, فإن مجرد إثارة هذا الموضوع اعتبرته مصادر دبلوماسية اختباراً سورياً لمدى حرص لبنان على امن سوريا وينبغي أن يترجم بالتعاون لمنع أي نشاط يستهدفها. كما اعتبرت تلك المصادر أن تعهد لبنان بالالتزام بما جاء في البيان الوزاري مقروناً بفعل على الأرض, من شأنه بعث رسالة إلى أي طرف معاد لسوريا مفادها «أن الانسحاب السوري من لبنان لا يعني انه أصبح ساحة مفتوحة أمامه».

على تلك الخلفية تأتي الإشارة السورية إلى الخطاب العدائي الذي توجهه بعض وسائل الإعلام الخاص في لبنان, ما استدعى رد وزير الإعلام اللبناني غازي العريضي: «في البلدين نظامان مختلفان, نحن إعلامنا ديموقراطي وحر ضمن الأنظمة والقوانين المرعية», إلا إن التوجس السوري كان حاضراً من انعكاسات هذا الخطاب العدائي, بمعنى القلق من استغلال الأجواء التي يشيعها من قبل الأطراف المناوئة لسوريا. وحسب مصادر مطلعة أن سوريا لا تزعجها حرية وديمقراطية الإعلام في لبنان, وسابقاً في ظل الوجود السوري لم تظهر انزعاجها من الانتقادات الحادة التي دأب البعض على توجيهها, لأن المشكلة ليست بالنقد وإنما بالتجريح والتحريض, ولعل سوريا لا تعجز عن مبادلة الإعلام اللبناني بالمثل. بعض الصحف الرسمية والخاصة السورية شنت حملة مضادة غير مسبوقة لأيام عدة قبيل الزيارة.

اعتبر هذا التصعيد غريباً على الخطاب السوري الرسمي والشعبي, لتناقضه مع المبادئ والثوابت القومية لسوريا, وثمة من استنكر وصول تدهور العلاقة بين بلدين إلى هذا الحد من المهاترات المؤذية للشعب في الطرفين, وأعرب مسؤول سوري لـ«الكفاح العربي» عن أسفه لذلك,قائلاً: «لا يجب أن نحمل جميع اللبنانيين وزر تهجمات الحاقدين على سوريا في لبنان, أو سياسة أطراف معينة», وتابع مؤكداً «مكانة سوريا العربية والقومية لا تسمح لها بالانحدار إلى مستوى مهاترة أطراف معروف من وراءها, كما معروف أهدافها وغاياتها, وأي خلاف بين البلدين يصب في مجرى تلك الأهداف». وأضاف «آمل أن تضع زيارة الرئيس السنيورة إلى دمشق حداً لتدهور العلاقات مع لبنان الشقيق والجار».

وهناك وجهة نظر أخرى في الحملة الإعلامية المضادة, ربطت تأزيم الوضع على الحدود, بالتزامن مع تشكيل الحكومة اللبنانية, بغية الضغط عليها لتحديد خياراتها في العلاقة مع سوريا ووضعها على سلم أولوياتها, ومن ثم المطالبة بوقف الخطاب العدائي المرتفع تجاه سوريا, وكل ما من شأنه «الإيحاء بأن لبنان دولة معادية وساحة لإضعاف سوريا».

التزام الطائف

التفاهم السوري­ اللبناني حول تلك النقاط حقق نتائج جيدة, ظهر بتجديد السنيورة «الالتزام باتفاق الطائف في شأن عدم استخدام لبنان لتهديد الأمن القومي لسوريا, والتزام ما جاء في البيان الوزاري في شأن مستقبل العلاقات بين البلدين». وهو ما كان غير متوقع بالنظر إلى تردي المناخ الدولي العام, وما طرأ على العلاقة بين البلدين منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14شباط /فبراير/ الماضي.

بالإضافة إلى الاتفاق حول القضايا الأمنية وعدم السماح بتحول لبنان إلى موقع للتآمر على سوريا, والعمل على منع تهريب الأسلحة عبر الحدود, تعهد رئيس الحكومة اللبناني باستمرار التنسيق مع سوريا بخصوص عملية السلام ورفض إحداث تغييرات في الوضع اللبناني الراهن قد يؤدي إلى فرض اتفاق جديد على لبنان من قماشة اتفاق 17 أيار /مايو/. ومن المتوقع لقاء وزيري خارجية البلدين لوضع الأسس والتفاصيل التنسيقية بشأن موضوع السلام والمفاوضات والعلاقات مع إسرائيل.

هذا التفاهم الأولي في ما يخص الشأن الأمني والسياسي, بإمكانه إشاعة مناخ من الهدوء يسمح للطرفين كما هو مقرر, العمل على وضع تصور مستقبلي للعلاقات بينهما, يقوم على مراعاة مصالحهما, وفرصة لتصحيح العلاقات بينهما, وتسوية الخلافات بعيداً عن مشاعر العداء والانتقام, والأهم من ذلك بعيداً عن التدخل الخارجي, بتقرير كل طرف ما يناسبه بغض النظر عن أي أجندة أخرى تحاول بعض القوى الدولية فرضها, لتتم مراجعة مجموعة القرارات التي اتخذت خلال زيارة رئيس الحكومة اللبناني السابق نجيب ميقاتي لدراسة احتمالات المرحلة المقبلة, و«التنسيق خصوصاً في الأمن والدفاع» حسب تصريحات الجانب اللبناني, والبيان الرسمي المشترك الصادر عقب الزيارة, تضمن «تغليب المصلحة المشتركة على أي اعتبار آخر من خلال مؤسسات فاعلة وأسس واضحة ومجالس وهيئات ناشطة تلبي آمال وتطلعات البلدين اللذين يتوقان فعلاً إلى تعميق أواصر التعاون والتفاعل المتبادل والتضامن عبر تشاور توافقي وتعاون مخلص وبناء في إطار سيادة واستقلال كل منهما».

ترجمة فورية

ولعلها المرة الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين التي تتم فيها ترجمة فورية لنتائج المباحثات والوعود مباشرة. فقد أجرى الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني السوري نصري خوري العديد من الاتصالات واللقاءات مع الوزراء المعنيين اللبنانيين والسوريين, وإعداد جداول مواعيد وبرامج عمل لاجتماعات اللجان الوزارية المشتركة لمعالجة الملفات العالقة وإجراء تقييم للاتفاقات الموقعة وتنفيذ المتفق عليه منها وتعديل أو تطوير ما يجب تعديله. ووفق ما أوردته مصادر صحفية فإن ابرز البنود المطروحة على جدول أعمال اللجان الوزارية المشتركة: 1­ تنظيم العمالة المتبادلة بين البلدين: حيث سيجري دراسة وإعادة تقييم وسبل تنفيذ الاتفاقيات المعقودة بين البلدين, بما فيها آخر اتفاق وقع أثناء حكومة ميقاتي, وسيتم تحديد المهن المطلوبة في البلدين, وبحث إجراء عقود ضمان صحي للعمال السوريين في لبنان كغيرهم من العمال الأجانب. وستتولى مراكز مشتركة عند الحدود عملية تسجيل تدفق العمال في الاتجاهين, وتنظيم الرسوم, يضاف إليها التنسيق مع الأمن العام حول دخول العمال والمستخدمين. علماً أن سوريا منحت مهلة شهرين للعمال اللبنانيين في سوريا لتسوية أوضاعهم القانونية بشأن إقامتهم في سوريا.

-الطاقة: معالجة مشكلة خط الغاز السوري إلى الشمال الذي ينتظر التنفيذ بعدما تم انجازه, وكذلك مسألة الربط الكهربائي بين البلدين لاستكمال أعمال الوصلات داخل الأراضي اللبنانية والسورية, وأيضاً موضوع الربط الكهربائي العربي.

- المياه: بحث وضع سدي النهر الكبير في الشمال ونهر العاصي في الهرمل, وملف المسح الجيولوجي, وتجدر الإشارة أن مجمل تلك القضايا عالقة في مرحلة التنفيذ.

- المفقودون: اتفق الطرفان على تشكيل لجنة لتسوية موضوع المفقودين السوريين في لبنان, وهذه المرة الأولى التي تطرح فيه الحكومة السورية موضوع المفقودين السوريين أثناء الحرب اللبنانية الذين قدرت عددهم بنحو 570 شخصاً, وبالمقابل لم تتوقف مطالبة اللبنانيين بالكشف عن مصير مئات من أبنائهم يعتقد أنهم في السجون السورية, الأمر الذي تنفيه السلطات السورية.

وبينما دعا رئيس الحكومة السوري محمد ناجي العطري إلى تفعيل الاتفاقيات وتشكيل لجان عمل متفرغة ومتخصصة في وزارات الدولة لمتابعة تنفيذها, جاء في حديث لوزير المالية السوري وعضو القيادة القُطرية محمد الحسين أمام قيادات فروع الجبهة الوطنية الأسبوع الماضي, أن بعض الاتفاقيات تميل لمصلحة لبنان؛ مشيراً إلى أن سوريا كانت تمد لبنان بنحو 25% من الطاقة الكهربائية, الأمر الذي أوصل الديون المستحقة على الجانب اللبناني إلى 140 مليون دولار, موضحاً انه وبقرار من الرئيس بشار الأسد, تم شطب 70 مليون دولار عن لبنان, إضافة إلى مساهمة الشركات السورية في إعادة اعمار جنوب لبنان. ودعا الوزير الحسين إلى «إعادة قراءة الاتفاقيات وتقويتها مشددا على أهمية أن تكون هناك مصلحة متوازنة للطرفين». وكان الرئيس السنيورة قد أشار اثر زيارته إلى استعداد الحكومة اللبنانية لإعادة النظر في أي نقطة من نقاط الاتفاقات المعقودة بين البلدين و«أن أي شيء في حاجة إلى تعديل سيلقى تجاوباً لبنانياً ضمن الاحترام المتبادل ولمصلحة البلدين والشعبين في آن معاً».

زيارة السنيورة كانت ناجحة بكل المقاييس, حسب تأكيدات الجانبين السوري ­ اللبناني, وطبقاً للرئيس السنيورة ثمة رغبة صادقة لانطلاقة جديدة مع إدراك أن «الدنيا تغيرت», لكن هل سيسمح هذا التغير لرغبة البلدين الصادقة بتأسيس مرحلة جديدة بينهما, في مواجهة المشاريع التوسعية الدولية؛ تحد صعب سيكون عنوان المرحلة السورية ­ اللبنانية المقبلة في حال تحقق التوافق والاتفاق الأخوي والندي ضمن إطار التعاون والتشاور. عند ذاك لن تكون هناك مشكلة بين سوريا ولبنان, بل إن المشكلة الكبرى ستكون بين البلدين من جانب والقوى الدولية التي سعت إلى إصدار قرار 1559 من جانب آخر؛ وستبقى الاحتمالات السيئة هي الغالبة, في ظل العبث الإسرائيلي بأمن المنطقة والسعي لفرض أجندتها, والخلاف الفرنسي­الأميركي حيال الوضع في لبنان وتنفيذ بنود 1559 بالكامل, واستمرار الضغط الأميركي على سوريا. وحسبنا التصريح الأخير لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس: «السلوك السوري يؤذي الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين, إنهم خارج السياق مع ما يجري في النظام الدولي» لندرك أن تلك القوى لا تريد رؤية أي تحسن في العلاقات السورية­ اللبنانية, شأن أي شيء لا يخدم مصالحها.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)