ربما أظهر الوضع بين سورية ولبنان في الأشهر القليلة الماضية أن مسألة العلاقات الإقليمية يمكن إعادة صياغتها من جديد. لكن ما حدث بين سورية ولبنان دفع عجلة التحليلات نحو مجالات أبعد من طبيعة الأزمة، وأظهر أن "محاسبة التاريخ" عملة رائجة داخل الصحافة العربية بالدرجة الأولى.

ومن ضمن عمليات المحاسبة فتحت إحدى الصحف العربية نقاشا حول شعار "سورية أولا"، معتبرة في مقدمة ملفها أن انتشار هذا الشعار سابقا في الدول العربية انتقل اليوم إلى دمشق. وبغض النظر عن هذا الشعار فإن مسألة "سورية أولا" يمكن أن يحمل صياغات كثيرة لكنه في النهاية سيختلف عن طروحات كثيرة حملت نفس العبارة. وليس لأن سورية لا تحتاج اليوم إلى نظرة من الداخل وإلى الداخل، بل لأن التكوين السياسي لها لم يحدد طبيعة المصلحة الاجتماعية في مثل هذا الشعار. في وقت يبدو الضغط الدولي وعدم الاستقرار الإقليمي عاملين أساسيين في حياة المجتمع السوري.

"سورية أولا" لا يعني فقط النظر إلى الداخل السوري، بل رسم ثقافة اجتماعية متراكبة على ذاتها وقادرة على إنتاج رؤية للداخل السوري بشكل مستقل ... فهل هذا الأمر ممكن!!
"وسورية أولا" لا يعني فقط التمسك بقيم الجمهورية او العمل لهذه الجغرافية والبيئة وحتى المجال الحيوي للمجتمع، فهي تعني أيضا التركيز على خصائص محددة للمجتمع والتعامل معها بشكل منفرد ... فهل هذا الأمر ممكن!!

لاشك بأن سورية تحتاج اليوم إلى نظرة باتجاه الداخل، ولإيجاد مساحات سياسية واقتصادية وثقافية جديدة، وهذا الأمر لا يتطلب منها نسف تاريخها ومحاسبته، بل التعامل معه بموضوعية، لأن الحدث السياسي اليوم لا يمكن أن يشكل ثقافة عامة، فهو يبقى حدثا يمكن التعامل معه والتكيف مع معطياته، وإيجاد آليات اجتماعية مرتبطة به. وطرح "سورية أولا" بما يحمله من غيرة يمكن أن يتخذ صيغة الحرص بدلا من الانكفاء على الذات.

أزمة العلاقات السورية – اللبنانية كشفت المساحة الرمادية التي تفصل أقرب بلدين، لكن هذه المساحات لا تعني الاكتفاء بـ"الانكفاء" ... فحرب القبائل التي اشتعلت بالأمس القريب داخل "ساحات الحرية" ليس الأولى ولن تكون الأخيرة .... و "ساحات الحرية" ليست تعبيرا مجازيا لأنها بالفعل ساحات "الفوضى البناءة" التي أطلقتها الولايات المتحدة لكننا لا نعرف حتى اللحظة طبيعة البناء الذي ستخلفه ......