هل نجحت زيارة شارون الأخيرة إلى باريس في التأسيس لعلاقة جديدة مع فرنسا وصفها في حديثه لاذاعة “أوروبا 1” ب”بزوغ عهد جديد” و”عودة الماضي المشرق كما كان في الخمسينات والستينات” من القرن المنصرم؟

وقتها كانت فرنسا الداعم الأول في العالم للدولة العبرية، حتى في المجال الذري حيث بنت لها مفاعل ديمونة وساعدتها على التحول إلى قوة نووية. هل كرست زيارته هذه قراراً اتخذته باريس منذ عام تقريباً (قمم سي آيلاند واستنبول وايرلندا في يونيو/حزيران 2004 ثم القرار 1559 الصادر عن مجلس الامن الدولي في بداية سبتمبر/أيلول من العام نفسه) باعادة النظر في كل سياساتها الدولية (العلاقة مع واشنطن) والشرق أوسطية (العلاقة مع العرب و”إسرائيل”)؟ المحللون القريبون من الدولة العبرية يروجون لمثل هذا الرأي ويعولون الكثير من الآمال على اللجنة المشتركة “الاسرائيلية” الفرنسية التي تم الاتفاق عليها لبلورة تحسين العلاقة الثنائية.

هذه الزيارة، الاولى منذ العام 2001 ، لمن اعتبرته باريس في مثل هذه الايام من العام الماضي “شخصاً غير مرغوب فيه” اثر دعوته اليهود الفرنسيين للهجرة إلى “إسرائيل”، هي نجاح خالص بكل المقاييس والمعايير. استقبال الرئيس شيراك له كان في غاية الحفاوة واللقاء بينهما كان “ودياً وحاراً وممتعاً” حسب ما صرح شارون. كذلك كانت استضافة رئيس الوزراء دوفيلبان له في قصر “ماتينيون”. وللتذكير فقط فقد رفض شارون، في العام ،2003 استقبال دوفيلبان نفسه الذي كان وزيرا للخارجية بسبب زيارة قام بها لياسر عرفات المحاصر في رام الله. والصحافة الفرنسية التي طالما استهزأت بالرئيس بوش لوصفه شارون ب”رجل السلام” لم تعد تبخل على هذا الاخير بكل نعوت الشجاعة والجرأة والتضحية لأجل السلام بسبب قراره الانسحاب الاحادي من غزة، معتبرة أنه يعيش حصاراً قاسياً بين المستوطنين الصهاينة من جهة و”الارهاب الفلسطيني” من الجهة الاخرى. أكثر من ذلك فقد جدد شارون دعوته لليهود الفرنسيين بالهجرة إلى “إسرائيل” وهي دعوة تسببت له بهجوم سياسي واعلامي فرنسي شامل في العام الماضي، أما اليوم فقوبلت هذه الدعوة نفسها بالتفهم والتبرير.

هذا التقارب المتسارع واللافت مع “إسرائيل” يقابله تباعد فرنسي مقصود مع دمشق التي يمكن القول إن لقاء شارون وشيراك أراد أن يرسل اليها عدداً من الرسائل المتشددة. فقد تعمد شارون التصريح عقب خروجه من الاليزيه بأن “الفرنسيين يتفهمون الخطر السوري والخطر الذي يمثله حزب الله”، مؤكداً “أن هناك تغييراً أساسياً في التفهم الذي تبديه أوروبا، وخصوصاً فرنسا، حيال “إسرائيل”.. اننا نلمسه”. وفي حين تعمدت باريس تجاهل مواضيع مثل الجولان المحتل والدعوات السورية للتفاوض مع “إسرائيل” من دون شروط فإنها كررت مطالبتها دمشق بعدم التدخل في الشؤون اللبنانية، معتبرة أن هذه الاخيرة لم تفهم بعد مغزى التنسيق الفرنسي الأمريكي في لبنان، متوعدة اياها بالمزيد من التشدد وبالعقوبات الدولية اذا استمرت سياستها اللبنانية على ما هي عليه. لم يفوت شارون فرصة استغلال الأجواء الايجابية للزيارة لتمرير مواقفه المعهودة في مواضيع مثل مكافحة اللاسامية والارهاب وخريطة الطريق والحل النهائي ولبنان وسوريا والملف النووي الايراني وغيرها، كاشارة إلى أن الفرنسيين هم الذين يسيرون في اتجاه سياسته وليس العكس.

أكثر من ذلك فقد اتفق البلدان على تعزيز العلاقة الثنائية في كل المجالات بما فيها العسكرية والاستراتيجية. وقد لاحظ أحد الدبلوماسيين المرافقين لشارون أن “المسائل المتفق عليها بين الجانبين لم تكن يوماً بهذا العدد”، وبأن “فرنسا ترغب في العودة إلى الشرق الاوسط وقد أدركت أنه لا يمكنها أن تفعل ذلك من دون المرور عبر القدس” مضيفا أن ““الاسرائيليين” يبدون وللمرة الاولى منذ عقود تأييداً لكي تلعب فرنسا دورا أكبر في النزاع مع الفلسطينيين”. هذا الدور رسمه شارون مسبقاً وهو “افهام الفلسطينيين بأن عليهم مكافحة الارهاب” كشرط للاستمرار في العملية السلمية، قبل أن يؤكد في لقاء مع عدد من الجمعيات اليهودية أن الانسحاب الأحادي من غزة هو عمل “فريد وأخير” ولن يتكرر في مناطق أخرى، وأن حكومته ماضية في بناء الجدار، وأن القدس لن تكون موضوعا للتفاوض مع الفلسطينيين، كذلك التجمعات الاستيطانية الكبرى في الضفة، وأن لا وجود لشيء اسمه حق العودة، وأن حكومته لا يمكن أبداً أن تتهاون مع الارهاب وأن تقدم أي تنازل أو تساهل يؤثر في أمن مواطنيها.

رغم ذلك سمع الضيف “الاسرائيلي” كلاماً مشجعاً ومهنئاً من الرئيس شيراك الذي اعتبر “القرار التاريخي الشجاع” بالانسحاب من غزة خطوة في سبيل تطبيق خارطة الطريق واعادة بعث العملية السلمية برمتها.

لا غرابة في أن يمتدح شيراك قرار شارون الانسحاب من غزة، فمحمود عباس نفسه عدا عن رؤساء عرب قبل الاجانب وجهوا ل”بطل” مجازر صبرا وشاتيلا وجنين وغيرها كلاما فيه الكثير من الاطراء والتشجيع، رغم اعلانات مستشاره فايسجلاف عن الهدف الحقيقي من وراء هذا القرار. لكن المشكلة أن العالم محتاج إلى خطوة ما تحرك المياه الراكدة في الشرق الاوسط وتخلط الاوراق من جديد، وإذ يقرر شارون أن يخطوها بنفسه فإنه يحقق أرباحاً سياسية هائلة من دون أن يدفع شيئاً من جيبه. فغزة، التي كان يحلم رابين لو أن البحر يبتلعها بالكامل، ليست سوى هدية ملغومة لطالما أبدت الحكومات “الاسرائيلية” المتعاقبة الرغبة في تسليمها إلى الفلسطينيين في اطار اتفاق سياسي وأمني معين.

الأوروبيون، والفرنسيون على وجه التحديد، يحتاجون إلى الخطوة الشارونية لتبرير توجههم الجديد صوب الولايات المتحدة وحليفتها العبرية. هذا التوجه الجديد يعبد السبيل أمامهم نحو الشرق الاوسط حيث يحتاجون إلى جواز مرور أمريكي “إسرائيلي”، ذلك أن التقارب مع العرب لم يأت عليهم بالارباح المتوخاة. وعلى كل فإن نفاذ الفرنسيين والاوروبيين إلى المنطقة يبقى مصلحة فلسطينية وعربية اذا لم تتخل أوروبا عن ثوابتها الاستراتيجية حيال الصراع العربي “الاسرائيلي”.

شيراك احتاج إلى شارون لمواجهة الصعوبات الداخلية التي تفاقمت بعد التصويت الشعبي السلبي للدستور الاوروبي. وقد تسابقت الجمعيات اليهودية على مديح الاجراءات الفرنسية الجديدة في مجال مكافحة اللا سامية. شارون احتاج إلى شيراك، ومن ورائه أوروبا، لتلميع صورته في الداخل “الاسرائيلي” والخارج على حد سواء، وكان له ما أراد على خلفية مرحلة جديدة سوف تنبثق من الانسحاب الاحادي من غزة والاستمرار في الاستيطان وبناء الجدار.

عدا ذلك وبعيداً عن حسابات المصالح الآنية أو المستديمة يصعب القول إن المواقف الفرنسية الاخيرة وتحديدا منذ صدور القرار 1559 تسير في اتجاه استراتيجي جديد يقطع مع الديغولية التقليدية. فقرار القطيعة هذا يتطلب اعادة نظر شاملة في ثوابت سياسة فرنسا الخارجية والشرق أوسطية وفي وموقع هذه القوة العظمى على الخارطة الدولية ومفهومها للنظام الدولي. ومن المؤكد أن شيراك لن ينخرط في مثل هذه الورشة كرمى لعين شارون، الذي تبقى مواضيع الاختلاف معه أكثر من أن تحصى رغم كل الابتسامات والمصافحات أمام الكاميرات (الاستيطان، الجدار، خارطة الطريق، مسائل الحل النهائي، متابعة تنفيذ القرار 1559 والموقف من حزب الله تحديداً، العراق...إلخ). ولا استرضاء لبوش الذي يبحث عن مخرج من الورطة العراقية، وبات يسعى وراء باريس للتنسيق معها في شؤون دولية كثيرة بعد أن وصفها وزير دفاعه رامسفيلد بالعجوز.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)