بعثت طوابير الشاحنات المتوقفة عند الحدود السورية – اللبنانية مجدداً المخاوف من احتمال عودة الازمة بين البلدين والتي كان يفترض ان تكون قد ذللتها زيارة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة لدمشق الاسبوع الفائت. ورغم التطمينات الرسمية الى ان اختناق المعبر الحدودي مجدداً مرده الى سبب تقني هو ضآلة الامكانات المتاحة لاستيعاب اجراءات عبور مئات الشاحنات الى داخل الاراضي السورية، فالواضح ان ملف العلاقات اللبنانية – السورية ينحو الى ان يصبح مشكلة اكثر تعقيداً ما لم يصر الى وضع ما اتفق عليه في دمشق موضع التنفيذ. ذلك ان العاصمة السورية تأمل في ان يباشر المسؤولون اللبنانيون تأليف اللجان التنفيذية المنصوص عليها في الاتفاقات الثنائية وعقد اجتماعاتها ترجمة للتعهدات التي كان قد قطعها السنيورة لنظيره السوري ناجي العطري في دمشق، تمسكاً بالعلاقات المميزة بين البلدين.

ويبدو ان دمشق تربط تنفيذ هذه التعهدات بمهلة تتوقع الا تطول اكثر من شهر.

وبحسب جهات سياسية لبنانية لا تزال ناشطة على خط الاتصال بالعاصمة السورية وتتردد اسبوعياً على دمشق للاجتماع بمسؤولين سوريين قاربوا الملف اللبناني بنسب متفاوتة، فإن القيادة السورية تنظرالى العلاقات السورية – اللبنانية وفق مستويات ثلاثة وتعتقد ان التعامل الجدي معها من شأنه ان يرسم مستقبلاً ايجابياً لعلاقة البلدين بمعزل عن ماضيها وحاضرها وكلاهما مثقل بالازمات والشكوك.

اما المستويات الثلاثة التي سمعتها الجهات السياسية اللبنانية في دمشق في الايام الاخيرة والتي تعكس القراءة السياسية والامنية الجديدة للقيادة السورية حيال جارها، فهي الآتية:

– تتمسك دمشق بشعار ان امن سوريا من امن لبنان سواء في ظل وجود جيشها في هذا البلد او من دونه. وهي تعتبر ان مخاوفها مما تعتبره تهديدات محتملة منه على استقرارها ليست طارئة، ولا نشأت بسبب الانسحاب الشامل لجيشها منه، وانما هي مخاوف تعود الى الاربعينات. حين اصبح هذا الموضوع مشكلة في ذاته بين البلدين في حقبات الحوار بينهما كما في مراحل القطيعة.

وهي لم تجد المشكلة هذه في حدودها المشتركة مع تركيا والعراق والاردن شأن حالها مع لبنان بسبب نظامه الديموقراطي وفسحة الحريات التي جعلت منه، بالنسبة الى دمشق، تربة خصبة لتدخلات خارجية ونشاطات معارضين سوريين للانظمة السورية المتعاقبة سياسياً وامنياً ومصدراً للتحريض عليها وافتعال ازمات، مستهدفة موقعها في الصراع العربي – الاسرائيلي. وهذا ما لم تلمسه من الادارة المتشددة للحدود من كل من تركيا والعراق والاردن حيث لم تكن ثمة نشاطات معادية لها يضيف المسؤولون السوريون للجهات السياسية اللبنانية.

وبمقدار ما نجحت دمشق في اثناء وجود جيشها في لبنان في السيطرة على امن لبناني لا يشكل تهديداً لامنها هي الداخلي، فإن انسحاب هذا الجيش احيا، بالنسبة الى دمشق، مجدداً مخاوف الاربعينات والخمسينات والستينات وخصوصاً في ظل ضغوط اميركية وفرنسية عليها من هذا البلد مذ صدر القرار 1559 وارغامها على سحب جيشها من لبنان. ولذا تسعى القيادة السورية الى الحصول من السلطة اللبنانية على الضمانات الكافية لتطمينها من اي استهداف محتمل لها من داخل الاراضي اللبنانية. وهذا ما اكده السنيورة في دمشق، عندما استعاد ما اورد في البيان الوزاري لحكومته، وتحديداً العبارة التاريخية التي غالباً ما حاول لبنان من خلالها على مرّ السنوات طمأنة جارته، وهي انه ليس مقراً لتهديد امنها ولا ممراً.

– تبرر دمشق تمسكها بـ"العلاقات المميزة" مع لبنان انطلاقاً من واقع الجوار والتداخل السياسي والاجتماعي والاقتصادي بين البلدين والذي اوجد لهما مصالح حيوية في وسعهما ترجمتها باتفاقات ثنائية. وهي اذ تعتبر بأنها لم تنجح على مر العقود الخمسة الماضية في بناء "علاقات مميزة" كالتي ارستها في ظل اتفاق الطائف، فإن جانباً من بناء هذه العلاقات، ومن خلالها ابرام اتفاقات ثنائية، اقترن بوجود الجيش السوري في لبنان وجانباً آخر اقترن بنجاح دمشق في بناء طبقة سياسية موالية لها حكمت لبنان لاكثر من عقد من الزمن مما اتاح ظروفاً ملائمة لعقد اتفاقات ثنائية امنية وعسكرية واقتصادية لم يكن في الامكان حصولها في ظل العهود السابقة.

مع ذلك يقول المسؤولون السوريون ان اياً من نظرائهم اللبنانيين لم يفاتحهم مرة في اتفاق واحد على الاقل وجدوا فيه اخلالاً بالتوازن وعدم التكافؤ، فيما لمسوا في الفترة الاخيرة ان تصعيد الحملة على العلاقات اللبنانية – السورية من بوابة انتقاد الاتفاقات الثنائية لم يكن يتعدى حملات سياسية تستهدف "العلاقات المميزة" بالذات الى ان طمأنها السنيورة الى العكس.

ويقول مسؤولون سوريون امام محدثيهم اللبنانيين انهم لا يقاربون مسألة الاتفاقات الثنائية بين البلدين وفق قاعدة ان تؤخذ كلها كما هي او ترفض كلها كما هي، وانما ثمة استعداد اكدوه لرئيس الوزراء اللبناني في دمشق بالانفتاح على اجراء مراجعة اي اتفاق يقترح لبنان تعديله بما يتوافق والمصالح المتكافئة للطرفين.

– واذ تعتقد دمشق ان البندين السابقين غير قابلين للمساواة نظراً الى اهميتهما الحيوية بالنسبة اليها، فإن البند الثالث يكمن في مفهوم دورها في لبنان الذي ارتبط في المرحلة السابقة بوجود جيشها على اراضيه، وان عليها ان تقارب دورها هذا في المرحلة المقبلة من دونه. وهي في اي حال تقول امام الجهات اللبنانية الزائرة، تبريراً لهذا الدور، ان مصدره الحرب اللبنانية. فهي لم تدخل لبنان اجتياحاً وانما في ضوء ما تعتبره حرباً اهلية تقلبت فيها تحالفاتها بين عامي 1976 و1978. كان المسيحيون حلفاءها ثم اصبحوا اعداء، كذلك كانت لعبة التحالف والصدام معكوسة مع احزاب "الحركة الوطنية" والمنظمات الفلسطينية. واستناداً الى ذلك، دون اسرافهم في سرد وقائع الحرب، يرى المسؤولون السوريون ان يصار الى مناقشة دورها في لبنان على مر السنوات الـ30 المنصرمة وفق قياس يقتضي ان يأخذ في الاعتبار مقارنة الايجابيات (انهاء الحرب وعودة الاستقرار والامن وتطبيق اتفاق الطائف واعادة بناء الدولة والجيش وحل الميليشيات ودعم المقاومة لتحرير الجنوب) بالسلبيات (الفساد والسمسرات ونشوء طبقة ضمت لبنانيين وسوريين على السواء اثرت باسم تحالفها مع سوريا واخلال هذه بلعبة التوازن الداخلي بتقوية افرقاء واضعاف آخرين والتدخل في شؤون داخلية...).

تالياً يرى المسؤولون السوريون ان دمشق التي ابلغت تكراراً الى سياسيين لبنانيين انها لا تفكر في استرجاع دورها العسكري في لبنان وقد انتهى نهائياً بانسحابها الشامل منه، هي الآن اكثر استعداداً لمناقشة دورها السياسي الذي لا مناص منه، وقد خبرته سنوات طويلة من علاقات الجوار بين البلدين.

الامر الذي يعني بالنسبة اليهم ان لا مكان لسوريا من الآن فصاعداً في لعبة الحياة السياسية بين اللبنانيين ولن تكون طرفاً في ادارتها ولا في مسؤوليتها عن الامن.

مصادر
النهار (لبنان)