كتب فلاينت ليفيريت كتاباً بعنوان : وراثة سورية اختبار بشار بأزمة متفجرة (بالنار) وهو كتاب يبدو أفضل ما كتب عن السياسة السورية غربياً. فهو موضوعي لجهة عدم الحكم على السياسة السورية مبكراً إلا بعد اختبارها في أزمات متفجرة أي بالنار.

في الفصل الأخير من الكتاب ثمة ما يستوجب التوقف ، فالكاتب يبدو رصيناً، مع الاختلاف معه أحيانا فيما ينتهي إليه، ولكن هذا ليس حال السياسة الأمريكية بدليل أنه قد غادر منصبه في مجلس الأمن القومي الأمريكي لأنه اختلف مع هذه الإدارة في طريقة التعاطي مع سورية ، بمعنى أنه الوجه الإيجابي (بمعنى من المعاني) للواقعية والعقلانية السياسية التي تتعرض إلى ضغط تحت تأثير الإيديولوجية لكل من المحافظين الجدد وتيار التمامية المسيحية وتيار البروتستانتية المتشددة الذين يشكلون الطيف السياسي في جمهوريي اليوم، بمعنى أننا لا يجب علينا أن نتوهم للحظة أن ما يقدمه هو ما تتبعه السياسة الأمريكية اليوم ، وإن كانت تتقاطع معه انتقائياً ، إلا أن الخطر يكمن في جرعة الإيديولوجية التي لا يعرف المرء إلى أين ستمضي وكيف ستتبدى في الممارسة العملية في اللحظات الحرجة ، فمن المعروف أن غزو العراق والضغط لإخراج سورية من لبنان بدون توافق سلمي إقليمي ومحاولة إلغاء مبدأ السيادة والاعتداء على الدول باسم حق التدخل الإنساني...

كل ذلك من اللاعقلانيات الإيديولوجية التي تتصدر سياسة التشكيلة التي يرسمها تحالف هذا اليمين في الحزب الجمهوري، ولذلك فسورية إزاء هذه الجرعة اللاعقلانية في خطر، إلا أن ليس لها أن تختار إلا سياسة الشرعة الدولية ومبدأ السيادة وكل ما تم التوافق عليه دولياً مع جرعة كافية من العقلانية التي لا تقدم مادة استهداف ولا ترمي ببلدها في التهلكة، على أن لا يكون ذلك على حساب حقوقها واستثمار كل وسائل الصراع كي تبقى طرفاً وليس مجرد مفعولٍ به أو دولة (تحصيل حاصل).

في الفصل الأخير من الكتاب، يعتبر فلاينت أن لبنان هي البداية ، و يتقاطع الكاتب مع ما يتم تداوله حالياً من ضرورة استخدام مؤسسات المجتمع المدني في سورية وتمويلها للضغط على النظام، مسجلا أن الناشطين من أهل البلد في مجال المجتمع المدني يحاذرون من الاشتراك مع من هم في الخارج ويحذر من أن هنالك سجلا تاريخيا متواصلا من الفشل بالنسبة للسياسة الأمريكية حينما استرشدت باستراتيجية الاتكال على المعارضة الخارجية لإحداث تغييرات سياسية في الأنظمة، ويقول بالحرف " إن استراتيجية ربط الأنظمة الاستبدادية في المراحل الأولى من الإصلاح وممثلي المجتمع المدني، كان له سجل مؤثر من النجاح وخصوصا في الكتلة السوفييتية السابقة وأمريكا اللاتينية، وينبغي أن يكون هذا النموذج الذي تحتذي به السياسة الأمريكية تجاه سورية بقيادة بشار الأسد".

وعلى نحو مماثل يبدو له أن حركة المعارضة السورية من المهجرين قاعدة غير ملائمة لتغيير المحيط السياسي داخل سورية. فبالنسبة له ليس هناك دليل أن المعارضين العلمانيين المنفيين لهم الكثير من الأتباع داخل سورية. ويفضلون عدم جعل موقفهم داخل سورية موضع تساؤل، ويحذر من أن هنالك خطراً في أن يساهم الانسحاب السوري من لبنان بعودة ظهور الصراع الطائفي هناك وخصوصاً في حال اندفعت الحكومة الجديدة في بيروت بسرعة إلى نزع السلاح من حزب الله تمشياً مع متطلبات القرار 1559 الذي يدعو إلى حل جميع الميليشيات اللبنانية ونزع السلاح منها. وكبديل على ذلك أن يكون حزب الله في أي نظام سياسي جديد في بيروت يزعم أنه يمثل جميع عناصر المجتمع اللبناني.. وهذا على أقل تقدير لن يكون كسباً واضحاً لصالح المصالح الأمريكية.

ويرى الكاتب أن تجديد المسار السوري هو الطريقة المثلى لواشنطن في تشجيع نظام الرئيس الأسد على اتخاذ موقف يتصف بالتعاون والاسترضاء تجاه مخاوف مستخدما الدعوة لإستراتيجية الارتباط المشروط مقراً بصعوبة التوجه نحو ضرب سورية بسبب ما يدعوه الالتزامات المتواصلة في العراق التي تجعل من المشكوك فيه أن يكون لدى الولايات المتحدة خيار البدء بعملية ضد سورية في أي وقت قريب. حيث أصبحت القوات العسكرية الأمريكية من الناحتين اللوجستية والعملياتية تحت ضغط شديد ومتزايد بسبب المتطلبات المتواصلة في أفغانستان والعراق وليس البنتاغون بقادر حالياً على إرسال قوات كافية إلى الميدان لإكمال المهمات على كلا المسرحين وتلبية الالتزامات المتوجبة عليه في المناطق المتأزمة الأخرى مثل شبه الجزيرة الكورية.

مرجعه في هذا أن الولايات المتحدة ببساطة لا تملك مصادر القوة العسكرية الكافية تحت تصرفها من أجل سلسلة واسعة من الحملات لقلب أنظمة الحكم التي يدعونها بالمشاكسة عبر الشرق الأوسط. ومع مرور الوقت أصبح هذا الوضع أكثر وضوحاً للمراقبين الإقليميين مما ألغى أية فائدة دبلوماسية أياً كانت يمكن أن يتضمنها التهديد الضمني بحملات إضافية لتغيير الأنظمة بشكل قسري.

ويقر الكاتب ناقدً أن"الإدارة الأمريكية قد قررت بعد الحادي عشر من أيلول 2001 مباشرة كشأن من شؤون سياستها، أنها لن تقدم أية جزرة محتملة لحث دولة مصنفة أنها راعية للإرهاب على تغيير سلوكها المُشكِل، لكنه يؤكد خطأ تلك السياسة على اعتبار أن الرئيس السوري-حسب تعبيره- يمكن التعامل والمشاركة معه بالنسبة للغايات الأمريكية. ففي الجانب الإيجابي من سجله أظهر الرئيس بشار بعض الدوافع الإصلاحية ، وهو ليس متعصباً للأيديولوجيات مثل الملا محمد عمر ، وليس بالسفاح العنيف مثل صدام حسين . وأن الرئيس بشار يمكن أن يكون الشخص المناسب للارتباط الدبلوماسي إذا كان هذا الارتباط يؤمن له خارطة الطريق الواضحة إلى هدفه المأمول ويمنحه السلطة للتحرك في ذلك الاتجاه، ومن اجل الارتباط الناجح معه يقترح أنه لا يكفي التذمر حول سلوكيات سورية الإشكالية. بل بدلا من ذلك يتوجب على الولايات المتحدة أن تمنح الرئيس بشار أهدافا واضحة ومحددة لعكس تلك السلوكيات".

هذه الرؤى تعكس نموذجاً من السياسات المقترحة تجاه سورية، لكنها ليست مقرّة إلا بصورة انتقائية اليوم مع جرعة عالية من الإيديولوجيا تحد منها العلاقات الدولية من ناحية وطبيعة السياسة التي تفرض نفسها على الإيديولوجيين من ناحية أخرى ، رغم أننا كنا ولا زلنا نحذر من أن هذا لا يجري بشكل طبيعي وآلي إنما تحكمه حقيقة "مبدأ التعلم بالتلمس" أي بالأخطاء كما هو حال ما حدث في العراق، ومن المهم ألا تكون سورية أداته للتعلم وسماداً لسياسات أقل ما يُقال عنها اليوم هو أنها ارتكاس عن العقلانية السياسية، وهو مالا نتوقع من السياسة السورية أن تسقط فيه.

مصادر
موقع الرأي (سوريا)