ثمة منظرون سياسيون- اقتصاديون بدأوا منذ اليوم يدعون السلطات اللبنانية إلى التخطيط المستقبلي على قاعدة أن لبنان جزيرة لا حدود برية لها ، مما يستلزم إعادة نظر شاملة في حركة صادراته لتقوم على المرافىء البحرية في اتجاه الاردن عبر العقبة ومنه إلى دول الخليج، باعتبار أن النظام السوري في حسبانهم سيظل يطبق في المدى المنظور أسلوب "إنزال الخشبة"، التعبير المستخدم تاريخياً لقفل الحدود مع البلد الجار الأصغر كلما كانت لسورية مطالب محددة تريد فرض تحقيقها.

سورية كانت تحدت في إعلامها سعد الحريري، نجل الرئيس السابق للحكومة وزعيم تيار "المستقبل" الغالب في البرلمان والحكومة الجديدين، أن يبدأ بتحريك أساطيله البحرية والجوية لحل أزمة الصادرات اللبنانية الزراعية والصناعية التي توقفت على الحدود، كلياً تارة وجزئياً طوراً ، مع انفراج نسبي لم يدم طويلاً إثر زيارة رئيس الحكومة، القريب من الحريري الإبن كما كان مع والده ، فؤاد السنيورة الذي أبلغ السوريين أنه يريد علاقة مباشرة وندية لا تمر بالاستخبارات وتسريباتها وغموضها، على ما قال عقب عودته متفائلاً بحل للأزمة في ضوء ما سمعه من المسؤولين في دمشق. لكن أجواء التفاؤل هذه لم تعمّر، فلم يمض يومان حتى عاودت الأزمة في شكل تدريجي ومعها موجة من الكلام السوري المختلف علناً وتسريباً ، مما اضطر تيار "المستقبل" إلى الرد بالأسلوب نفسه ، عبر وسائل إعلامه وعدد من الصحافيين القريبين منه ، سائلاً : هل أن القرار السوري بفتح الحدود ، الذي أبلغ إلى السنيورة كان لتفادي ضغوط كانت الأنباء تتحدث عن أن القمّة العربية الطارئة في شرم الشيخ ستكون مسرحاً لها ، باعتبار أن الأزمة الحدودية بين لبنان وسوريا كان يُفترض أن تكون مطروحة في شكل أو في آخر في تلك القمّة التي أدت وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز الى إرجائها؟

ولاحظ التيار أن العودة السورية بالأزمة الحدودية الى النقطة الصفر تلت مباشرة مواقف أعلنها السنيورة أبرزها تلك التي أدلى بها في خلال مقابلة أجرتها معه محطة "العربية" يوم الجمعة الماضي، وأوضح فيها مضمون محادثاته مع الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس حكومته محمد ناجي عطري، حيث بيّن أن عدداً من التسريبات الإعلامية التي تلت زيارته لم يتم التطرق اليها "لا من قريب ولا من بعيد" كما قال، لا سيما منها ما يتعلق بوضع الإعلام اللبناني عموماً وإعلام تيار "المستقبل" خصوصاً، وما يتعلق بزيارة إليها تتطلع دمشق إلى أن يقوم بها زعيم التيار سعد الحريري . في حين يبدو أن هذه الرغبة ستبقى من طرف واحد، أقله على المدى المنظور حتى صدور تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الحريري ديتليف ميليس ، والمتوقع أن يقدمه القاضي الإلماني إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان قبل آخر هذا الشهر ، خالياً من أي قرار ظني ولكن واضعاً النقاط على الحروف في مسائل يتوقع سياسيون لبنانيون، مناوئون لرئيس الجمهورية إميل لحود وعلى خلاف مع النظام السوري( أبرزهم الزعيم الدرزي وليد جنبلاط) ، أن يكون لها "وقع القنبلة".

وتضيف معلومات تيار "المستقبل" أن السنيورة سمع من القيادة السورية كلاماً عن مؤتمر عقده "الاخوان المسلمون" السوريون في شمال لبنان، فرد مؤكداً أن لبنان لن يكون ممراً ولا مقراً لإعمال وتحركات معارضة للنظام السوري، وهو عندما امتلك لاحقاً المعطيات الكافية حول هذا الموضوع تبين له أن ثمة التباساً في أسماء سوريين زاروا لبنان آتين عبر الحدود السورية ومن غير جماعة "الاخوان المسلمين" فاتصل بنظيره العطري وأبلغه هذه المعلومات.

وهنا تقول المعلومات إن ما تحدث عنه المسؤولون السوريون حول مؤتمر في شمال لبنان ليس صحيحاً بالوقائع فقط ، بل لأن عدة مؤتمرات إسلامية عقدت في بيروت ودمشق في المرحلة التي سبقت الخروج السوري من لبنان، وقد شارك فيها "إخوانيون" عرب وآخرون سوريون غير ذوي صفة رسمية في هرمية تلك الجماعة ونقل بعضهم رسائل وأجواء "اخوانية سورية" في شكل غير رسمي أو شبه رسمي، كما تؤكد على ذلك مصادر إسلامية حركية مطلعة.

وتستنتج الأوساط "الحريرية" أن عودة الضغط السوري على لبنان عبر الحدود إذا ما بدا أن أسبابه سياسية صرفة، ترمي إلى تحقيق زيارة لسعد رفيق الحريري إلى دمشق وإلى "تطبيع" إعلامي ـ سياسي أيضاً، مما يعطي أبعاداً رمزية ـ سياسية في اتجاهات متعددة لبنانية ودولية . لكن أوساطاً أخرى تعرب عن اعتقادها أن كل ما تقدم ذكره ليس هو الأهم. بل أن الضغط على لبنان هو وسيلة سورية إلى استدراج تفاوض دولي ـ أميركي معها، وتعتبر أنه كلما ازداد الضغط الدولي والأميركي على سورية ازداد الضغط السوري على لبنان. وتبدي الأوساط نفسها اقتناعاً بأن ثمة رغبة سورية في التخلص من التهديد الذي تشير إليه دول أساسية في المجتمع الدولي انطلاقاً من التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وأن ثمة رغبة سورية أيضاً في الانتهاء من التلميحات والتصريحات الأميركية والغربية بشأن استخدام نتائج التحقيق الدولي ضدها، ولذلك تسعى دمشق إلى تفاوض مع أميركا والمجتمع الدولي لإنهاء هذا الموضوع ، وتريد من لبنان بسلطته الجديدة تطبيعاً جدياً ونهائياً للعلاقات أيا تكن نتائج التحقيق الدولي.

وواضح في هذا السياق إن الأزمة الحدودية المتجددة تعني أن "مفعول" زيارة السنيورة ربما انتهى سورياً. لكن هذه الأزمة الحدودية تعني أيضاً أن الأمر لا يتعلق بلبنان وحده، بل إن المجتمع الدولي معني به . يذكر في هذا السياق أن كلاماً عنيفاً حاداً من النوع الذي يثير استياء النظام السوري هذه الأيام أطلقه اليوم الأحد المرشح السابق للنيابة رافي مدايان، نجل الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي في ذكرى أربعينه ، إذ قال أن قاتلاً واحداً قتل فرج الله الحلو (أحد قادة الحزب الشيوعي الذي ذوب بالأسيد في سوريا لخلاف مع قادة حزب البعث في خمسينات القرن الماضي ) وكمال جنبلاط ورفيق الحريري وسمير قصير وجورج حاوي ، مما تسبب بإرباك لبعض المشاركين في المناسبة والذين تربطهم علاقة جيدة بالنظام السوري.

مصادر
إيلاف (المملكة المتحدة)