تستبطن الرغبة في العودة الى تعبير ( اليسار ) نزوعا نحو تغليب السياسي على الايديولوجي ، فمفهوم اليسار السابق لنظرية ماركس وثورة لينين يشير بصورة رئيسية الى انحياز سياسي للطبقات الأكثر فقرا ، وفي دلالته الأخلاقية يشير الى انحياز لقيمة العدالة والحق .

أما الدلالات الأخرى فتتضمن الانحياز لحركة التقدم التاريخي ، والانحياز للانفتاح والتسامح ، والانحياز للتضامن الاجتماعي والأممية .

مثلت نظرية ماركس محاولة لاستبدال النزعة السياسية لليسار بالنزعة العقائدية ، مستعينة بإضفاء الصفة العلمية على حركة ذات طابع إنساني في الأساس ، في وقتها بدت تلك المحاولة خطوة عملاقة في ميدان الوعي ، أما اليوم فيمكن النظر اليها على نحو مختلف . لقد منحت الماركسية لينين يقينا لم يصدقه التاريخ ، وهكذا فان دمج الفلسفة الألمانية وعلم الاقتصاد السياسي الانكليزي والاشتراكية الفرنسية في كل واحد كان باهظ التكاليف لدرجة تدفع المرء للتساؤل عن مشروعيته .

مشروع تجديد اليسار العربي بقدر مايسعى للإفلات من قبضة الايديولوجيا الصارمة والهرمة يسعى في ذات الوقت لاستعادة الجوهر الأصلي لمفهوم اليسار ونعني به ( اللاحياد ) .

اليساري هو ذلك الذي لايستطيع ان يكون حياديا تجاه الظلم ، تجاه طمس الحقيقة ، خياره محسوم في الوقوف الى جانب الأغلبية الفقيرة ، الى جانب شعوب العالم المضطهدة ، الى جانب حركة التاريخ ، الى جانب الانفتاح والتسامح والأممية .

وعيه لانحيازه شرط لعمله السياسي ، الماركسية لم تعد نقطة البدء ، بل مجرد محطة ، لاشيء يجبر اليساري أن يكون ماركسيا كما لو كنا نتكلم عن مذهب أبدي ، عن عقيدة تناوىء الدين ولكن تنتهي باحتلال مكانه . وعلى النقيض ففي مفهوم اليسار تقاطع مع غايات رئيسية للدين : الانتصار للحق ، الوقوف ضد الظلم ، الاقتراب من الفقراء ، كره استغلال الانسان للانسان ، التسامح ، النزعة الأممية .

لايحتاج اليسار العربي اليوم للفلسفة المادية ، خاصة الميكانيكية ، ويمكن له أن يحتضن المؤمنين والملحدين حين يستعيد هويته كتيار سياسي وليس كتيار فلسفي – عقائدي .

الشيوعية بعد تجربة لينين ظهرت كفكرة لاتقل طوباوية عن جمهورية افلاطون ، مثال بديع ولكن غير قابل للتحقق ( اقلها في المرحلة التاريخية على نطاق الدول القومية ) .

في سعي اليسار للعدالة يتوجب عليه ان يفكر في كل مرحلة ، في كل يوم ، ماهي الأهداف الممكنة ، بعقل مفتوح ، الحلول الجاهزة سقطت ،(التأميم ، الغاء الملكية الخاصة ، رأسمالية الدولة ..الخ..) اليوم لاتوجد أجندات اقتصادية كاملة وسحرية لليسار العربي ، يوجد فقط تحليل للواقع بعقل بارد ووضع لحلول تتسم بالابداع .

مايسم اليسار العربي وعيه لتمثيله لمصالح الطبقات الفقيرة والوسطى وسعيه لتوجيه الحلول الاقتصادية لصالح تلك الفئات ولصالح المجتمع ككل .( ليس من الضرورة التسليم بتناقض غير قابل للحل بين مصالح مختلف الطبقات ).

مقاربة اليسار العربي لفكرة الديمقراطية تتغذى من النزعة نحو العدالة ، الديمقراطية ليست ثوب الرأسمالية السياسي واللحن الملازم لها ولكن ضرورة للعدالة ورافعة للتقدم ، الديمقراطية التي يريدها اليسار هي أوسع ماتكون وأعمق ماتكون .

لذا لايرضى اليسار العربي بديمقراطية تمتلكها طبقة واحدة ، ولابديمقراطية الطوائف أو ديمقراطية المال .

ذلك ينسجم مع مبدأ العدالة ، وينسجم أيضا مع مصلحة الطبقات الفقيرة والوسطى التي يجري تهميشها باستمرار في الديمقراطية البورجوازية الغربية .

تجديد اليسار العربي ضرورة لاعادة استقطاب القوى الاجتماعية وفق ترتيب يناسب عربة التقدم التاريخي ، ويقطع الطريق على الاستقطابات العمودية التي تفتت المجتمع وتطلق صراعات تهدد أمنه ولاتسمح بتقدمه بل تكبله أو تدمره .

مصادر
موقع الرأي (سوريا)