حجم الاعتداءات العنصرية على المسلمين (والإثنيات الملونة) في بريطانيا تضاعف بنسبة 600% في الأسابيع الثلاثة التي أعقبت تفجيرات قطارات لندن, كما تشير تقارير الشرطة والجهات المعنية مؤخراً. يندرج في ذلك اعتداءات جسدية, أو لفظية على الأفراد, وأيضا اعتداءات على المساجد أو المراكز الإسلامية وغير ذلك. في بقية البلدان الأوروبية هناك تصاعد للعنصرية ضد المسلمين, وخاصة في الدول التي تتواجد فيها جاليات مسلمة كبيرة مثل فرنسا, وألمانيا, وأسبانيا, وهولندا, وبلجيكا. العنصرية ضد غير البيض في أوروبا موجودة قبل الإرهاب القاعدي, ولها أسباب عديدة, كارتفاع معدلات البطالة وشعور الكثير من الأوروبيين بأن فرص عمل كثيرة يخسرونها للمهاجرين القادمين من الخارج. يُضاف إلى ذلك استخدام التيارات المتطرفة في السياسة الأوروبية لورقة المهاجرين في برامج الانتخابات بانتهازية مدمرة.

لكن تصاعد تلك العنصرية على نطاق واسع ضد المسلمين في أوروبا في الأسابيع الأخيرة له وطيد علاقة بتصاعد الإرهاب الإسلاموي الأعمى الذي يضرب في كل مكان. المسلمون أصبحوا في قفص الاتهام, ويشعر كل منهم بأنه متهم إلى أن تثبت براءته. بعضهم صار يبتعد أكثر فأكثر عن كل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين, ولو استطاعوا لغيروا لون جلودهم وأسماءهم. وكثيرات من المسلمات الآن خلعن الحجاب أو في الطريق إلى ذلك حتى لا تسهل ملاحظتهن في الوسط العام, وحتى يتفادين أية اعتداءات أو تحرشات. وفي بريطانيا أصدر الدكتور زكي بدوي, مدير الكلية الإسلامية في لندن ورئيس مجلس المساجد والأئمة في بريطانيا, فتوى تجيز خلع الحجاب للنساء, بل وتشجعهن على ذلك, إن شعرن بأن الحجاب قد يسبب لهن التعرض للاعتداء, وهي فتوى جريئة وتستحق الاحترام من قبل عالم يعيش وسط الواقع, وليس ممن يصدرون الفتوى من خارج الحدود من دون أن يتلمسوا معاناة الآخرين.

إلى سنوات قريبة كانت الجاليات المسلمة في أوروبا, وخاصة في بريطانيا, تعيش في رخاء فكري وسلوكي كبير. كان المسلمون يمارسون حريتهم الدينية بشكل لا يحلم به كثيرون حتى في بلدانهم الأصلية. ففي العديد من البلدان الإسلامية التي هاجروا منها هناك حظر للأنشطة السياسية, ومنع للجمعيات الإسلامية, بل وتضييق على المساجد والصلوات, وأحياناً عدم السماح بارتداء الحجاب. انتعشت تلك الجاليات بحق وفي وسطها وعبر البلدان الأوروبية كانت العناصر المتطرفة تجوب أوروبا شمالا وجنوبا مستغلة القوانين المتساهلة ويسر التنقل. الآن يختلف الوضع ربما إلى غير رجعة, فبريطانيا التي عرفها الكثيرون, وأوروبا التي عرفها الكثيرون لجهة علاقتهما بالجاليات المسلمة تختفي الآن وتصعد بريطانيا وأوروبا جديدتان علاقتهما بالمسلمين ملتبسة وخائفة وأكثر عنصرية. وأوروبا التي شهدنا فيها خلال السنوات الماضية تصاعدا ملفتاً في تأييد الرأي العام فيها للقضايا العربية خاصة فلسطين, وفيما تلا معارضة الحرب ضد العراق تختلف الآن أكثر فأكثر وتعاني من الصدمة. لا يفهم الناس العاديون لماذا يعاقبون وتزرع في شوارعهم وقطاراتهم المتفجرات وهم الذين عارضوا الحرب على العراق! في لندن, وليس في القاهرة, أو الدار البيضاء, أو دمشق, سار مليون ونصف المليون متظاهر ضد الحرب.

كل التبدل الذي حصل ويحصل الآن هو جزء من "الدمار" الذي توعد به الظواهري بريطانيا والغرب في خطابه السقيم الأخير, ونتيجة عنه. والظواهري إذ يتوعد الغرب بالدمار فإن الدمار الحقيقي يحل بالعرب والمسلمين بسبب الإرهاب الذي يبشرنا به سواء في بلداننا أو خارجها. كيف يسوغ "الفقه البنلادني والظواهري" خلق الظروف الملائمة لابتعاد عموم المسلمين والمسلمات عن دينهم في أوروبا, وعن الحجاب, وعن المساجد, والتخلي عن كل ما قد يشير من قريب أو بعيد لهويتهم الإسلامية؟ صحيح أن هناك هوامش متطرفة في الجاليات المسلمة في أوروبا, كما في كل مكان, تطرب لخطاب بن لادن والقاعدة وممارساتهما, لكن الاعتداد بهذه الهوامش يعني التضحية بالتيار العام من المسلمين: إنه إخراج بالجملة للناس من الدائرة الإسلامية والدفاع عنها, وتضييقها على المجموعات المتعصبة والفاقدة للبوصلة. والذين يسعدون بتهديدات الظواهري عليهم التأمل في الفرق بين الشعور بـ"فش الغل" الذي يغلف الرأي العام العربي والإسلامي, والدمار الذي ينتج عن ذلك. عليهم أن يتذكروا الحكمة العربية السديدة "الرأي قبل شجاعة الشجعان", وما الذي يمكن أن ينتج عن تلك التهديدات. كما أن الاستشهاد الناقص بانسحاب القوات الأسبانية من العراق نتيجة للإرهاب الذي ضرب قطارات مدريد يفتقد إلى الصدقية التحليلية. فقرار الانسحاب ونيته كانا على رأس البرنامج الانتخابي للحزب الذي فاز بالانتخابات وكان قد عارض الحرب عندما كان في صفوف المعارضة وتعهد بسحب القوات الأسبانية فور فوزه إن فاز, وهو ما حصل. كما أن المئات العدة من العسكريين الأسبان لم يكونوا سوى قوة رمزية ولا مجال للمقارنة بينها وبين القوات البريطانية أو الأميركية والتأمل بانسحابها جراء عمليات عمياء وسط لندن أو واشنطن تضر ولا تنفع.

"الدمار" الذي تتوعد به القاعدة بريطانيا وأوروبا لن يدمر هذه البلاد إلا بالقدر الذي دمر إرهاب الحادي عشر من سبتمبر الولايات المتحدة. فقد رأينا هذه الأخيرة وقد استعرت وتمنطقت بمنطق القوة وصارت تخبط يمينا ويسارا فحل الدمار الحقيقي بأفغانستان والعراق (وبينهما كان الدمار المتواصل في فلسطين يغرق في الإهمال حيث فقدت القضية موقعها الأول على الأجندة الأقليمية والدولية). وهو الدمار الذي سيستمر أيضا حتى بعد الانسحاب الأميركي من العراق, حيث سيعيث الإرهاب القاعدي في بلاد الرافدين كل أنواع الفساد, بما سيخلق أفغانستان أخرى ولسنوات طوال في قلب المنطقة العربية. ويخشى المرء أن يقول إن العراقيين سيترحمون على أيام الاحتلال الأميركي البشع عندما يفجعون بتحالفات الطائفية والطالبانية في طول وعرض العراق, التي تأسست على إيقاع الإرهاب الأعمى البعيد عن المقاومة الشريفة, وكيف ستعزز التشظي العراقي إلى أمدية طويلة قادمة.

ذكر أحد الأصدقاء أن زميلاً ألمانيا له في العمل ذكر له بأنه قد انقلب مئة وثمانين درجة ضد العرب والمسلمين بعد تفجيرات لندن. قال له كنت دائما معكم, لكنني الآن أظن أني كنت مخطئا وأنكم شعوب تستحقون ما تواجهونه, وربما أنني كنت مخطئا بموقفي إزاء إسرائيل فهي تعرفكم أكثر. إذن, تستطيع القاعدة أن تضرب مدريد, ولندن, وربما غدا روما وباريس, وتحدث فيها أذى كبيرا. لكنها في المجمل لن تدمر هذه المدن, ولن تحطم بلدانها. سوف تنجح في تسعير الغضب على الإسلام والمسلمين في أوساط الرأي العام والشعوب المؤيدة لقضايا المنطقة العادلة. لكن ماذا نفعنا أو سينفعنا الرأي العام الدولي وقد جربناه عقوداً طوالاً, سيقول قائل. والرد من شقين: إن كنت تملك القوة الحقيقية لاسترداد الحقوق من دون انتظار مساندة الرأي العام الدولي فافعلها, لكن نعلم جميعاً أنه لا قوة لدينا ولا ما يحزنون. والشق الثاني يقول إن الرأي العام العالمي هو الذي هزم أميركا في فيتنام, وهزم النظام العنصري في جنوب أفريقيا, وهزم المشاريع الاستعمارية في أكثر من منطقة وإقليم في العالم.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)