بات واضحاً ان المسألة بين لبنان وسوريا ليست مسألة نصوص بل مسألة نفوس، وليست مسألة اتفاقات معقودة تحتاج الى اعادة نظر، بل هي مسألة نيات. فسوريا التي حكمت لبنان على مدى ثلاثين سنة يعز عليها ان تجد نفسها فجأة، قد اصبحت خارج حكمه ويهمها ان تظل تحكم لبنان حتى من سوريا بعدما تعذر عليها ذلك من لبنان.

لذلك، فان ازمة الحدود ما هي الا مظهر من مظاهر شعور سوريا بفقدان دورها في لبنان وبالتالي فقدان ثقتها بالاكثرية النيابية التي جاءت بها الانتخابات الاخيرة وكان خطابها السياسي مخاصما ان لم يكن معاديا ً لها، وانبثق من هذه الاكثرية حكومة تحكم بطريقة قد لا ترتاح اليها.

أما القول في تبرير ازمة الحدود المفتعلة بوجود هاجس امني لدى سوريا يحتم عليها اتخاذ كل التدابير التي تحول دون حدوث اضطراب للأمن سواء في لبنان او سوريا باعتبار ان امنهما واحد "فهو قول لا يعبر عن الحقيقة ما دام اتفاق الامن والدفاع المعقود بين البلدين يلحظ كل الاجراءات الممكن اتخاذها لحماية امنهما والوقوف في وجه اي عدوان او تهديد لامنهما القومي ولمواجهة اي اضطرابات تخل بالامن الداخلي وذلك يمنع اي نشاط او عمل او تنظيم في كل المجالات العسكرية والامنية والسياسية والاعلامية من شأنه الحاق الاذى والاساءة للبلد الآخر. فاذا كانت سوريا تشكو كما تقول، من نشاط للاخوان المسلمين في لبنان وغيرهم، فما عليها، بموجب هذا الاتفاق، سوى الطلب من لبنان القبض على هؤلاء الناشطين بأسمائهم وتسليمهم اليها، فاذا لم يفعل حق لها عندئذ ان "تتهم لبنان بالتواطؤ ضد امنها ومخالفة نصوص اتفاق الامن والدفاع.

واذا كانت ازمة الحدود في الشمال متأتية عن ضيق الطريق "كما يقول الامين العام للمجلس الاعلى اللبناني السوري نصري خوري، فلماذا اصبحت هذه الطريق ضيقة الآن ولم تكن كذلك سابقا"؟

يقول سياسي مراقب ان لسوريا هواجس تشعر بها بعد انسحابها من لبنان وبعضها هو الآتي:

اولا: "ان يؤدي الضغط الاميركي على لبنان الى فصل مساره عن مسار سوريا بحيث يتم توقيع سلام منفرد بينه وبين اسرائيل، وهو ما جعل البعض يحذر من 17 ايار جديد. ورغم تأكيد اللبنانيين بشبه اجماع رفض توقيع اي اتفاق منفرد مع اسرائيل فان سوريا تخشى ان يكون للضغوط الدولية تأثيرها على لبنان فيوافق على عقد سلام مع اسرائيل عندما تنسحب من آخر شبر من اراضيه بما فيها مزارع شبعا. ولا شيء يبدد هذا الهاجس لدى سوريا سوى ان تثبت الاكثرية الوزارية التي لم تعد اكثريتها بالفعل لا بالقول، انها ملتزمة وحدة المسارين اللبناني والسوري.

ثانيا: ان يتم تعيين رؤساء للاجهزة الامنية ممن ترتاح اليهم وتثق بهم كما كان شعورها مع الرؤساء السابقين لهذه الاجهزة بحيث تطمئن من خلال وجودهم الى ان أمن لبنان هو فعلا من أمن سوريا وان امن سوريا هو من امن لبنان وان لبنان لن يكون ممراً ولا مقراً لاي نشاط ضد سوريا كما جاء في البيان الوزاري، وان هذا النشاط سيكون تحت المراقبة الشديدة والصارمة لهذه الاجهزة.

ثالثا: ان لا يتم تنفيذ ما تبقى من القرار 1559 الا بالتفاهم والتنسيق مع سوريا. فسلاح حزب الله والسلاح في المخيمات هما من الاوراق الباقية في يدها لمواجهة شتى الضغوط عليها من اي جهة اقليمية او دولية.

رابعا: ان يظل التنسيق والتعاون قائمين، فعلا لا قولا، بين لبنان وسوريا خصوصا حول السياسة الامنية والدفاعية والخارجية ولا يكفي ان يتأمن ذلك من خلال وجود الرئيس لحود في منصبه، لانه فقد نتيجة الانتخابات النيابية الاكثرية الوزارية والنيابية التي كان يعتمد عليها سابقا في مواصلة سياسة التعاون والتنسيق الصادقين بين البلدين.

لذلك، فالمطلوب من الاكثرية الوزارية والنيابية التي هي ليست اكثرية الرئيس لحود ولا هي اكثرية موالية لسوريا ان تثبت بالممارسة انها مع استمرار التنسيق والتعاون بين لبنان وسوريا في شتى المجالات. وان تغير خطابها العدائي لسوريا الذي كان قبل الانتخابات وابّانها، واستمر لدى البعض حتى بعد الانتخابات، ويتحول خطاباً وديا يبدد كل الهواجس ويعيد بناء الثقة بين البلدين ومطلوب على الاخص من الاقطاب في هذه الاكثرية امثال سعد الحريري ووليد جنبلاط وبعض اركان "قرنة شهوان" ان يكون خطابهم وديا وصادقا حيال سوريا ولا يكفي القول باقامة افضل العلاقات واقواها معها، فيما الممارسات والتصريحات تناقض ذلك.

ويرى السياسي نفسه ان سوريا تريد من لبنان في ظل الحكم الذي انبثق من الانتخابات النيابية ان يمارس سياسة شبيهة او قريبة من السياسة التي كانت تمارس في ظل وجودها العسكري ولا يمكن جعل الحكم الحالي في لبنان يمارس هذه السياسة ان لم يكن مقتنعا بها وعندها لا ينفع عقد قمة بين الرئيس لحود والرئيس الاسد، ولا عقد اجتماع للمجلس الاعلى اللبناني – السوري تفتح فيه كل الملفات وتعالج فيه كل المشكلات الطارئة، ولا عقد لقاءات بين الوزراء المعنيين بكل اتفاق من الاتفاقات المعقودة بين البلدين وقد فاق عددها الثلاثين عدا البروتوكولات منذ اتفاق الطائف.

الواقع، انه عندما كانت سوريا هي التي تحكم لبنان على مدى ثلاثين سنة لم تكن هذه الاتفاقات هي التي تحكم العلاقات بينهما، ولا كانت الحاجة الى عقد قمم بين لحود والاسد، ولا الى عقد اجتماعات دورية للمجلس الاعلى اللبناني – السوري كما نصّ نظام هذا المجلس، انما كان لبنان يحكم خارج النصوص. لذا بات لبنان في ظل وضعه الجديد في حاجة الى البحث عن طريقة جديدة تحكم العلاقات بين البلدين بروح من الود والتفاهم والثقة المتبادلة مع احترام كل منهما لسيادة الآخر، بحيث لا تشعر سوريا بأن لبنان عاد ساحة صراع وهو مكشوف امنيا، او عاد اداة صراع، كانت تطمئن الى نتائجه عندما كانت هي اداته".

مصادر
النهار (لبنان)