الشهيد جورج حاوي كان الاول من بين "امراء" الحرب اللبنانية الذي اجرى مراجعة تقويمية ونقدية شاملة لتجربته السياسية ثم السياسية – العسكرية في لبنان والذي استخلص منها عبرا ونتائج جعلته ينتهج بعد بدء مسيرة "السلم الاهلي" البلاد اوائل التسعينات من القرن الماضي خطا سياسيا متميزا تمسك فيه بالعروبة وبالقضية الفلسطينية وبرفض الاحتلال الاسرائيلي لاجزاء من لبنان، كما تمسك باستعادة لبنان سيادته واستقلاله ونظامه الديموقراطي وبالعيش المشترك بين ابنائه على اساس من اللاطائفية، معتبرا ان لبنان هذا يزيح عبئا ثقيلا عن العرب وفي مقدمهم سوريا، ويؤمن تضامنا فعليا معهم. اما الثاني، في اجراء المراجعة التقويمية والنقدية، علانية باعتبار انه اجراها بينه وبين نفسه ومع محيطه من زمان، فكان الامين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن ابرهيم او "ابو خالد" الذي كان مع "رفيقه" حاوي لولب "الحركة الوطنية" التي نشأت قبيل اندلاع الحرب او الحروب في لبنان والتي شكلت اثناءها نوعا من الغطاء السياسي للعمل الفلسطيني المسلح في لبنان او ربما المشروع الفلسطيني. وقد جاء اعلان المراجعة في اربعين الشهيد حاوي الذي ربما كان اغتياله البشع في العاصمة بيروت وفي وضح النهار "العقاب" وان المتأخر عن مراجعته النقدية والتقويمية.

وحسنا فعل الزميل الكبير طلال سلمان عندما "اضاء" امس على مراجعة "ابو خالد". لكن من حق حاوي (ابو أنيس) علينا كما على غيرنا ان نتابع "الاضاءة" عليها وذلك بغية تشجيع "الامراء" الآخرين للحرب او الحروب المشؤومة والجهات السياسية التي اشتركت فيها سواء بالدعاء او بالترويج او بالتغطية على القيام بمراجعات تقويمية ونقدية لمسيرتهم "النضالية". اذ بذلك ننهي الحرب في لبنان التي قالوا كذبا انها انتهت عام 1990. فهي استمرت سياسيا منذ ذلك العام وحتى تشرين الاول من العام الماضي، ثم استمرت تفجيرات واغتيالات بعد ذلك. ولا شيء يشير الى ان ذلك توقف.

ولا يعني ذلك توجيه الاتهام الى الداخل بهذا النوع من الاعمال، اذ لا يملك احد المعلومات الكافية لتوجيه اتهامات في هذا الموضوع، بل يعني ان استمرار خلافات الداخل التي مكنت الخارجين الاقليمي والدولي من الامساك بالبلاد، قد تهيىء الخارجين انفسهما وإن بهويات متنوعة، الى الامساك به من جديد. وكما لم يساعد الامساك الاول في انهاء فعلي للحرب وفي بناء دولة السلم الاهلي، فان الامساك الثاني قد لا يساعد بدوره في تحقيق هذا الهدف. لماذا؟ لان الحرب في الاساس لبنانية – لبنانية، كي لا نقول اكثر، ولان الخارج على تنوعه لم يكن لينجح في التدخل في لبنان لولا وجود هذه الحرب. وعمر هذه الحرب من عمر استقلال لبنان. وهي كانت تتخذ في الماضي طابعا سياسيا حينا، عسكريا حينا آخر. وفي عام 1975 بلغت الحرب اياها الذروة لان الاوضاع الاقليمية كانت في ذروة التوتر والتفجير والتصارع فوجدت في لبنان ساحة قتال تحقق بواسطتها وبواسطة شعبها اهدافها، باعتبار ان الحروب الاكبر او الاوسع كانت اما ممنوعة من الكبار في العالم او غير ممكنة لاسباب عسكرية بحتة.

هل يقدم سائر "امراء" الحرب اللبنانية التي اندلعت عام 1975 وانتهت عام 1990 فضلا عن "الامراء" الجدد وإن لحرب اخرى، على اجراء مراجعات تقويمية ونقدية لمسيراتهم؟

لا احد يعرف. ولكن ما يجري الآن وخصوصا بعد الزلازل والخضات القوية التي شهدها لبنان منذ تشرين الاول الماضي، لا تشجع على الاعتقاد ان هؤلاء او معظمهم جاهزون لامر من هذا النوع. فكأنهم يؤكدون للبنانيين، في شكل او في آخر ـ، استمرار الحرب او الحروب في لبنان وعليه. وما الكلام الذي يقوله كل هؤلاء سواء عن السيادة والحرية والاستقلال والنظام الديموقراطي وعن مقاومة اسرائيل وحماية لبنان منها وعن ضرورة سوريا للبنان او عن ان السيادة والاستقلال لا يتنافيان مع العلاقة المميزة بينهما، ما هو الا نوع من الرياء والمداهنة. فللمرة الأولى صار اللبنانيون في معظمهم باطنيين يحكون ما لا يضمرون حتى الذين منهم ليس للباطنية جذور في تاريخهم، وهذه الباطنية ستقود لبنان من جديد اما الى الحرب او الى الفتنة او الى التشرذم والتفتيت. وحدهما الصراحة والجرأة في تناول الماضي وفي البحث في افضل مستقبل للشعب اللبناني بكل مكوناته يمكن ان تساعدا اللبنانيين على تلافي الوقوع في الهوة السحيقة التي نحوها يسيرون. فوطنهم اليوم على مفترق طرق والصراع الدولي – الاقليمي فيه على اشده. والشعارات التي يرفعها الخارج على تناقضه لا تنسجم مع المواقف التي يعلنها. وكذلك الامر بالنسبة الى الداخل اللبناني وشعاراته ومواقفه، وبدلا من ان ينتظر اللبنانيون في السلطة وخارجها وغير اللبنانيين تقرير لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وهم في حال رعب شديد تدفعهم حينا الى استعجال صدور التقرير وحينا آخر الى ارجائه خوفا من دويه الذي قد يفوق دوي ما حصل في 14 شباط الماضي كما قال البعض ومن انعكاساته السلبية، بدلا من الانتظار عليهم بدء ورشة داخلية من دونها سيبقى الوطن "اصطناعياً" وقابلا للتمزق عند هبوب ريح اقليمية او دولية او عند اشتدادها.

مصادر
النهار (لبنان)