ووصفات الديموقراطية القادمة من الخارج
لقد كان هناك اختلاف واضح في التعامل مع الإعلام والثقافة في عهد الرئيس "بشار الأسد" عما كان عليه الأمر في عهد أبيه. فقد رأينا الرئيس بشار يفتح مكتبه –وهو ما لم يكن معهودا في عهد أبيه-أمام رؤساء تحرير صحف عربية وصحف أجنبية وقنوات فضائية كلما شعر أن هناك ما يستدعي، لبيان رأي أو موقف يريد الرئيس أن يصدر عنه شخصيا. وكنا نقرأ أو نسمع عن وعود يعد بها الرئيس لحَلْحَلَة الوضع السياسي المتأزم في هذه الناحية أوتلك من نواحي التعقيد –وما أكثرها- التي ورثها عن عهد أبيه. وللأسف فإن كثيرا مما صدرت فيه وعود، لم ينفذ منه إلا القليل.

ولعل المشاهد السوري ما يزال يذكر المقابلة التي أجراها "حسن معوض" من قناة "العربية" مع الرئيس "بشار الأسد" عقب الاجتياح الأمريكي للعراق، وكان في حينها قد "علِقَتْ" على الحدود مع العراق، أسرٌ سورية كثيرة وشخصيات سياسية منفية –منها الفريق "أمين الحافظ" أول رئيس دولة بعثي-هربا من جحيم الاحتلال، ولم تسمح أجهزة الأمن لأحد من الأسر والأفراد بدخول سورية، ومن دخل اعتقل. وقد وعد الرئيس في تلك المقابلة أن تتم دراسة ملفات المنفيين السوريين، -وهم يعدون بعشرات الآلاف حتى لا نقول بمئات الآلاف- بعرضها على القضاء، فمن كان بريئا عاد إلى وطنه ومن كان متورطا حوسب. غير أن الزمن طوى تلك الوعود بعد أن أحيلت القضية ،كالعادة، إلى أجهزة الأمن.

وإذا كان هناك بعضُ القليل الذي يحسب لعهد الرئيس بشار الأسد، فهو سكوت أجهزة الأمن عما يكتبه مثقفون من داخل سورية في صحف عربية، بعد أن قضوا في المعتقلات ردحا من الزمن، ثم خرجوا ولا مورد رزقٍ لأكثرهم إلا مما يكتبون في تلك الصحف. وقد كان ذلك تعويضا ومتنفسا لهم، بعد أن منعوا من الكتابة في الصحف السورية الحكومية.

وقد كانت –وما زالت- الصحف المهاجرة وبعض الصحف اللبنانية، نادرا ما تنشر لكتّاب إسلاميين معارضين، خوفا من أن تسوء علاقة الصحيفة مع النظام السوري. ولكن هذه الصحف فتحت صفحاتها لأولئك الكتاب الذين خرجوا من السجون لاعتقادها أن كاتبا يعيش في سورية يراعي الخطوط الحمر، وإذا كان مِنْ حَرَجٍ فسيقع على الكاتب نفسه.

غير أن بعض أولئك الكتاب تجرأوا بتناول في ما يكتبون ممارسات أولي الأمر، ما فضح كثيرا من الفساد المستشري بين رموز النظام. وقد تم استدعاء بعضهم ،على خلفية تلك الكتابات، إلى فروع أجهزة الأمن مثل الكاتب "ياسين الحاج صالح" والكاتب "لؤي حسين" وغيرهما مرات عدة، وكأن أجهزة الأمن تقول لهم: "نحن هنا"، ثم تتركهم يعودون إلى بيوتهم في نفس اليوم.

وقد أعطى "الحاج صالح"، في مقال له نشرته "النهار" في 31 تموز الماضي، تحت عنوان "حقائق وزير الحقيقة البعثي" تفسيرا لسكوت أجهزة الأمن عما يكتبون: (كيف تفسرون أن الحكومة تسمح لكم بالكتابة المعارضة في لبنان؟ كان جوابي الشخصي أن الحكومة لم تسمح لنا أبدا بذلك. إنها ليست مسرورة أبدا بأننا نجد منابر نكتب فيها،إنها تجد نفسها أمام خيار سيئ وخيار أسوأ. السيء أن نكتب وتهاجمنا على طريقة وزير المعلومات، الأسوأ أن نكتب وتعتقلنا وتحاكمنا على آرائنا. وها هي أقوال الوزير توفر علينا عناء مزيد من الشرح) ... (1)

وأمام هذا "المأزق" الذي وجدت أجهزة الأمن نفسها فيه مع هؤلاء الكتاب، نصحت القيادة السياسية بأن يتم التعامل مع هذا الملف على أعلى المستويات، خوفا من أن يتسع الانتقاد للنظام السوري،ما يهدد بأمور غير محسوبة، خصوصا وأن واشنطن تتهم النظام السوري بأنه فشل في احترام حقوق الإنسان في سورية.

ولقد كان لافتا للنظر –بعد المؤتمر القطري الأخير- تصاعد التشدد مع فصائل المعارضة، مع أنه صدرت توصية من المؤتمر بالسماح لإنشاء أحزاب سورية جديدة. كما تم العودة لاستعمال القبضة الأمنية مع بعض ناشطي المجتمع المدني، قبل وبعد المؤتمر، ومنها اعتقال إدارة منتدى "الأتاسي" ثم إطلاق سراحهم، ثم أعلن عن إغلاق المنتدى بعد ذلك، واعتقال رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في سورية المحامي "محمد رعدون" وقتل الشيخ "الخزنوي" في ظروف غامضة. وقد تم كل ذلك من قِبَل أجهزة الأمن، ومن دون أن يصدر أي رد فعل حول ذلك من الرجل الأول في سورية الرئيس "بشار الأسد".

وفي حوار أجراه معه ،مؤخرا، رئيس تحرير صحيفة «المجد» الأردنية "فهد الريماوي"، وجه الرئيس السوري ما يشبه التحذير لبعض الصحف التي تفتح صفحاتها لكتاب سوريين بقوله:(انه لا يحترم «الخطابات المغرضة» التي تنشرها الصحف اللبنانية والخليجية). وأنه لا يقبل بوصفات الديمقراطية القادمة من "الخارج" وأن الشعب السوري«لا يحترم المثقفين الدائرين في فلك المحافل الغربية ، والمستفيدين من مراكز التمويل الاجنبي، والمغرمين بالظهور على شاشات القنوات الفضائية»).

وعندما يتصدى الرئيس (بمثل هذه الحدة) لتلك التصريحات، فهذا يعني أن النظام قد ضاق صدره بانتقادات المنتقدين السوريين، وأن الأمر أكبر من هذه الانتقادات، وأن النظام أصبح معزولا ومتوترا ويضيق من أية إشارة تتهم النظام بكم الأفواه وتغييب الحريات.

وإلا فما ذا يعني قول الرئيس أنه (لا يقبل بوصفات الديمقراطية القادمة من "الخارج")؟. الديمقراطية ليست منتجا يصنع ويصدر، والأصل أنها يجب أن يسعد بها الناس في جميع دول العالم. والإنسان يحتاجها لإكمال مقومات حياته كما يحتاج اللباس والغذاء. وإذا فقدت في بلد وجب على أهلها أن يفتشوا عليها. وليس عيبا أن يتطلعوا إلى البلاد التي تنتشر فيها الديمقراطية، إذا ما رفض نظام بلادهم أن ينشر ديمقراطية وطنية، تعيد إليهم دورهم في المشاركة في صنع مستقبل بلادهم بعد أن عزلوا عنها أكثر من أربعة عقود، ولسان حالهم يقول للنظام: "لا ترحمني ولا تترك رحمة ربي تصلني".

ونحن لم نعرف من هم المثقفون الذين قال الرئيس فيهم (بأن الشعب السوري لا يحترم المثقفين الدائرين في فلك المحافل الغربية)، فغالبية المثقفين هم نتاج بلدهم، ولا يدورون إلا في فلك وطنهم، ومن يدور في فلك المحافل الغربية قلة تعد على أصابع اليد... وكل ما في الأمر أن المثقف السوري ما كتب في صحف تصدر خارج القطر إلا بعد أن منع من الكتابة في صحف بلاده، وضُيّق عليه في ما يقول وفي ما يكتب.

ينبغي أن يكف النظام عن اعتبار الشعب رَعِيّة ليس لها إلا أن تتبع "مرياع"(2) الراعي. وأن يتوقف عن تلقين الشعب السوري ماذا عليه أن يقول وما ذا عليه أن لا يقول، وما ذا يكتب وفي أي صحيفة يكتب، ومتى يخطب وفي أي شيء يخطب.

الشعب السوري خلق ليعيش حرا. لا ليردد كالببغاء "بالروح بالدم نفديك يا زعيم.

مصادر
موقع الرأي (سوريا)