يتوزع الوسط السياسي في العاصمة الأميركية واشنطن، سواء منه الجانب المعني بصوغ القرار، أو «الصف الثاني» الداعم له تحليلاً وتخطيطاً، وهو ربما الأكثر دقة وأهمية، في الموقف من الوضع والنظام القائمين في سورية، بين توجهين

يرى الأول إمكانية ما للتعامل والتفاعل مع دمشق لغرض التماشي مع الرؤيا الأميركية للشرق الأوسط، فيما يعتبر الثاني أن ذلك ليس إلا من باب الاستدراج وهدر الوقت وأنه يؤدي وحسب إلى تبديد المصلحة الوطنية الأميركية التي لا تتحقق إلا من خلال تحجيم النظام السوري وتعليبه وصولاً إلى احتمال تحقيق سقوطه. وفي حين أن هذين التوجهين، الواقعي والمبدئي، لا يطرحان اليوم بصيغة صدامية، فإن الفرز الجاري بينهما لا بد من أن يفصل في طبيعة السياسة الأميركية إزاء سورية.

وإذا كان النفور الأميركي من دمشق عائداً إلى حد كبير إلى العداء القائم بين سورية وإسرائيل، فإنه ينطلق كذلك من تجربة مملوءة بانعدام الثقة والشوائب في العلاقات الثنائية بين الطرفين على مدى العقود الماضية، ومن مخلفات الحرب الباردة التي كانت قد شهدت ترابطاً سورياً - سوفياتياً، وصولاً إلى تشخيص أميركي للنظم والعقائديات غير المتوافقة مع مفاهيم الولايات المتحدة للاستقرار الدولي. فهذه، منذ التراجع المشهود للشيوعية الثورية والنظمية، أصبحت تنحصر بالجهادية الإسلامية والشمولية البعثية.

وفي حين أن إدراج النظام السوري في خانة هذه الشمولية البعثية لا خلاف حوله بين التوجهين الأميركيين، فإن ثمة إدراكاً في واشنطن أن حال دمشق اليوم ليست حال بغداد في ظل نظام صدام حسين. إذ على رغم الاستئثار البعثي في سورية بالحكم والخطاب السياسي، فإن بعض الإيماءات من دمشق توحي بإمكان توسيع الهامش الضيق للحرية الاقتصادية والاجتماعية. فالخلاف في قراءة هذه الإيماءات أميركياً هو حول ما إذا كانت إرهاصات لتطورات إيجابية ممكنة أو وعوداً مضللة لانعدام القدرة أو الرغبة بالتنفيذ.

وعلى أي حال، فإن التقويم للحال العقائدي في دمشق ليس إلا التأطير الشكلي للملفات الخلافية التي يقوم عليها مضمون الخصام الأميركي للحكم في سورية، وهذه الملفات هي تحديداً العراق وفلسطين ولبنان. ففي الشأن العراقي، وعلى رغم التبرؤ الرسمي السوري والإشارة المتكررة إلى تاريخ الخلافات بين حزبي البعث في سورية والعراق، فإن القناعة الأميركية المؤيدة استطلاعياً هي أن شبكات الدعم للعمليات المعادية لمشروع العراق الجديد، سواء منها «الجهادية» أو «الوطنية»، ناشطة في سورية، مادياً ومالياً وبشرياً، وأن سورية تشكل المدخل الأول للانتحاريين الجهاديين. وترى الأوساط الأميركية أن جهات عدة في الشرق الأوسط تحبذ إفشال جهودها لإقامة عراق جديد متماسك متحالف مع الولايات المتحدة، أو على الأقل تميل إلى تأخير إنجاح هذا المشروع لإقناع الولايات المتحدة بالثمن الباهظ للتدخل الجذري، فإن التشخيص الأميركي هو لطرفين محددين، أي نظامي الحكم في إيران وسورية، في واقع التعرض للضرر الفادح في حال استتباب الأمن والاستقرار في العراق، وذلك سواء من خشية متابعة الولايات المتحدة لعملها الإقدامي الهادف إلى تغيير الخريطة السياسية في الشرق الأوسط، أو من التنامي الذاتي للمعارضات الداخلية في كل من جاري العراق الشرقي والغربي في حال ثبتت جدوى التغيير في بغداد. فالمواجهة بين الولايات المتحدة وهذين الخصمين هي إما في العراق، أي في إطار الدائرة الأميركية، أو في كل من سورية وإيران.

ويلاحظ أنه إزاء التفوق القاطع للولايات المتحدة على مختلف الصعد، يتخذ أسلوب التصدي للمشاريع الأميركية طابعاً غير مباشر. فالحكم السوري ليس متهماً مباشرة بدعم الجماعات العنفية المعادية للولايات المتحدة في العراق، لكنه متهم بغضّ النظر عن الظروف التي تسمح لهذه الجماعات بالانطلاق من سورية والاعتماد على شبكات الدعم فيها. فيتفق أصحاب التوجهين الواقعي والمبدئي في واشنطن أن الحكم السوري قد لا يكون مسؤولاً عن التحريك اليومي لهذه الجماعات لكنه مسؤول عن تمكين تواجدها وهو قادر، إذا تحققت النية، على وضع حد لها. والاختلاف بين التوجهين هو حول كيفية دفع الحكم السوري إلى أداء الدور المطلوب منه عراقياً، ترغيباً أو ترهيباً، فيرى «الواقعيون» أن لا ضير من مقايضة التحرك السوري الإيجابي في هذا الصدد بتحرك تطبيعي يوحي إلى دمشق بالاطمئنان، في حين يعتبر «المبدئيون» أن الأصلح هو إفهام الحكم السوري أن عدم التحرك سيؤدي إلى تصعيد في الخطوات العقابية، ضمن إطار قانون «محاسبة سورية» وعلى مستوى المؤسسات الدولية.

وإذا كانت المواجهة في الملف العراقي أميركية - سورية، فإن طرفاً ثالثاً يدخل في المعادلة في الملف الفلسطيني، وهي إسرائيل طبعاً. فالحكم السوري متهم أميركياً بالسعي إلى تقويض أي تطور إيجابي في التسوية بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، وذلك عبر دفع خلايا المنظمات الفلسطينية الرافضة إلى أعمال عنفية، أو عبر تحريك «حزب الله» في الجنوب اللبناني. وفي حين يرى «الواقعيون» في واشنطن ضرورة أخذ المصالح السورية في الاعتبار، لا سيما الحاجة إلى معاودة التفاوض في شأن هضبة الجولان المحتلة، يرفض «المبدئيون» الربط بين إلزام الحكم السوري عدم التدخل بالتسوية الإسرائيلية - الفلسطينية، والحديث عن عودة إلى المفاوضات في شأن الجولان.

ويدرك أصحاب التوجهين في العاصمة الأميركية حساسية الملف اللبناني بالنسبة للحكم السوري. وكان قد نقل عن مسؤول كبير في الحكومة العراقية الموقتة السابقة عرض مقايضة سوري لموقف فاعل تتخذه دمشق في موضوع وضع حد للتسرب المسلح إلى العراق، في مقابل إقرار أميركي بالوصاية السورية على لبنان. ولكن الأحداث التي شهدها لبنان، مع اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وما تلاه من تحركات شعبية ومن ثم انسحاب سوري على رغم أنه لم يكتمل في جوانبه الأمنية والسياسية، جاءت لتجهض العرض، على رغم التلقي الإيجابي أو شبه الإيجابي له في الكثير من الأوساط الأميركية. والمقصود بشبه الإيجابية في هذا التلقي مقدار من الصمت الحذر، وإن كان مرحلياً وترقبياً، في صفوف بعض «المبدئيين»، والذين وإن كانوا يفتقدون الثقة بالحكم السوري، يبقون معنيين بإنجاح العراق الجديد الذي يشكل حجر الأساس في سياسة أميركية بعيدة المدى في الشرق الأوسط، وبتحقيق تسوية بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني تزيل عن القضية الفلسطينية طاقتها التعبوية المعادية للولايات المتحدة، من دون أن يكون للشأن اللبناني، باستثناء قضية «حزب الله»، بعداً يتجاوز الإطار المحلي أو البعد النظري. فالورقة اللبنانية أكثر أهمية سورياً منها أميركياً. ووزنها الأميركي الأول هو بطاقتها على تحقيق الضغط المرغوب على الحكم السوري.

فالواقع أن السياسة الحكومية الأميركية تجاه الحكم السوري ليست عقائدية، بل قائمة على تحقيق الغايات الأميركية في الملفات الخلافية الثلاثة (العراق: وضع حد لشبكات الدعم للمجموعات العنفية، فلسطين: إنهاء الدعم للمنظمات الفلسطينية الرافضة، لبنان: تعطيل القدرة المسلحة لـ «حزب الله»)، كما في المسائل الموضوعية الجوهرية، مثل تقويض برامج أسلحة التدمير الشامل، والالتزام بموقف من الإرهاب متجانس مع الرؤيا الأميركية والتراجع العام عن دعم المنظمات المصنفة إرهابية، والتعاون في المجهود الأميركي لتفكيك تنظيم القاعدة، وتقليص مدى التنسيق مع إيران. وقد يضاف إلى هذه اللائحة موضوع التزام الحكم السوري بالإصلاح السياسي والاقتصادي باتجاه التداولية والحرية.

فعلى رغم الخلاف في جوهر التقويم بين الواقعيين والمبدئيين، فإن ترجيح دفة طرف على دفة الطرف الآخر ضمن السياسة الأميركية إزاء سورية عائد وحسب إلى التحقق التدريجي لهذه الأهداف. وبما أنه ليست في الولايات المتحدة مطالبة بدور فاعل لإسقاط النظام في دمشق، فإن بقاء هذا النظام وبالتالي أمن سورية السياسي، إذا كان هذا هو المعيار، رهن بطواعية الحكم في دمشق باتجاه تحقيق هذه الأهداف.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)