«سميت», «اخترت», «قلت», «أبلغت», «استخدمت», «أرسلت».هذه بعض الأفعال بصيغة المتكلم ،التي استعملها جورج بوش ليزف إلى الأميركيين خبر تعيين جون بولتون مندوبا للأمم المتحدة متمتعا بكامل ثقته وقادرا على النطق باسمه.سبق للرئيس الأميركي أن اقترح بولتون للمنصب منذ خمسة أشهر. وأحدث الاقتراح ضجة إذ انقسمت النخبة الأميركية حيال ذلك بين مؤيد متحمس ومستهول مستنكر.

ولما أحيل الأمر، كما العادة إلى اللجنة المختصة في مجلس الشيوخ، حيث الأكثرية جمهورية، حصلت المفاجأة إذ أن بعض أصدقاء الرئيس أبدى ترددا في الموافقة .إلى ذلك هناك من علق إعلان موقف بحصيلة جلسات الاستماع وعلى امتداد ساعات كان المعارضون يزدادون شراسة والمؤيدون يزدادون ترددا والمتأرجحون يميلون إلى موقف سلبي. بدا أن الرجل لن يمر. لذا ذهبت القضية إلى الهيئة العامة لمجلس الشيوخ.

تكررت المشاهد نفسها وثبت انه يستحيل تأمين نصاب سياسي لتعيين بولتون في هذا المنصب الحساس الذي يعني، في ما يعني، الصورة التي تود أميركا تقديمها عن نفسها إلى العالم.عاند بوش وصبر ولجأ أخيرا إلى «حلبة قانونية» تقول أن من حقه الإقدام على تعيينات إذا كان الكونغرس في إجازة على أن يستمر مفعول التعيين إلى حين الانتخابات النصفية (بعد حوالي سنة ونصف في هذه الحالة).

وهكذا كان ما إن توجه المشرعون إلى عطلهم الصيفية حتى تولى بوش أمر التعيين وذلك في حدث يحصل للمرة الأولى منذ العام 1945!خاضت الإدارة معركة طاحنة ضد خصومها. قاد بوش هذه الحرب الصغرى، دافع عن رجله مرات ومرات! استنفر الحزب الجمهوري للمشاركة ولم يستطع جذب الجميع.

دفع كوندوليزا رايس إلى التصدي.لم يكن ديك تشيني يحتاج إلى من يشجعه. خاض المحافظون الجدد في السجال مصرين على أن بولتون هو الرجل المناسب في المكان المناسب. إلى ذلك امتنعت الإدارة عن تقديم وثائق طلبها الشيوخ وتتضمن معلومات عن المندوب المقترح. إلا أنها عادت فرضخت وسلمت البعض منها رافضة الكشف عنها كلها بذريعة أن ذلك من حقها وجعل بوش من معركة الوثائق احد الدلائل والعلامات على انه يستعيد للسلطة التنفيذية الموقع الذي أضاعه بيل كلينتون.

المهم أن بوش نجح أخيرا في إرسال بولتون إلى نيويورك إلا أنه أرسله مثخنا بالجراح ومتآكل الهيبة وعاجزا عن الادعاء بأنه إذ ينطق إنما ينطق باسم الأمة الأميركية الموحدة.لقد كانت الشهور الماضية بجلسات الاستماع التي امتدت لساعات. وبالتقارير الصحافية الأخيرة وبالمعطيات التي جرى الكشف عنها. كانت مرحلة من نشر الغسيل الوسخ. لقد تعرف الأميركيون والعالم، وموظفو الأمم المتحدة على رجل يصعب إنكار انه قام بارتكابات كبيرة.

أولا ـ لقد أقدم طائعا مختاراً على تزوير معلومات وتقارير ومعطيات من اجل تبرير شن الحرب على العراق وتواطأ مع موظفين آخرين في الإدارة من وراء ظهر مسؤولة وزير الخارجية السابق كولن باول.ثانيا ـ اتضح انه ينتمي إلى مدرسة سياسية أيديولوجية ترفض من حيث المبدأ ان تحاور الولايات المتحدة الأميركية أحدا أو تشاور، مدرسة ترفض فكرة التعددية أصلا وتدافع عن الانفراد.

ثالثا ـ تبين أن بولتون يكاد يرى في الأمم المتحدة هيئة تتآمر على المصالح الأميركية وتعادي النفوذ الأميركي. لا يتبنى طبعا نظرية الميليشيات الأميركية حول «الحكومة الدولية الحمراء» ولكنه ليس بعيدا عن الرأي القائل بأن الأمم المتحدة إنما تمنع واشنطن من الدفاع الحر عن نفسها.رابعا ـ جرى تقديم معلومات مذهلة عن فظاظة هذا المسؤول في التعامل مع مرؤوسيه واحتقاره لهم وإرغامهم على الاستقالة أو طردهم ومنعهم من حرية التعبير ومن الاختلاف.

وتبين عند التدقيق أن هذه المآخذ رافقت بولتون منذ دخوله العمل العام وصولاً إلى المرحلة الأخيرة في الخارجية في الولاية الأولى لبوش، واتضح،كما هو جلي، أن هذه الصفات تتناقض جوهريا مع طبيعة المهمة في الأمم المتحدة. ففي هذه المؤسسة التشاور ضروري وإلا مورس حق النقض ،وفيها المناقشات معلنة وفيها التسويات ضرورية وكذلك التخلي عن دفة القيادة،أحيانا، لآخرين. ثمة فلسفة خاصة لـ «المبنى الزجاجي» وطريقة تصرف وحياة وسلوك لا علاقة جوهريا لهما بكل ما هو بولتون عليه.

فالأخير كفيل، مثلا، أن يشن حملة شتائم شخصية على قادة كوريا الشمالية عشية بدء التفاوض معهم بما يؤجل المباحثات. وهو كفيل بان يوزع معلومات عن الأسلحة غير التقليدية السورية بعد أن رفضت أجهزة الاستخبارات الأميركية إجازتها لعدم صحتها. أكثر من ذلك، انه قادر على الذهاب إلى الحد الأقصى القائل بأنه يحق للولايات المتحدة استخدام سلاح نووي تكتيكي ضد دولة لا تملك سوى أسلحة تقليدية. ويعني ذلك مخالفة لألف باء النظرية الردعية التي تتبناها واشنطن منذ عقود.

إن شخصا يحمل مثل هذه الأفكار وهذه الصفات كان جديرا به أن يرفض المنصب المعروض عليه، يكون بذلك واضحا مع نفسه على الأقل أميناً للاشمئزاز الذي سبق له التعبير عنه حيال الأمم المتحدة. إلا انه قاتل من اجل المنصب ودعمه بوش وعبر الاثنان عن رغبة مشتركة لديهما في تطويع الهيئة الدولية.

عندما تحدث الرئيس الأميركي قال ما معناه انه يرسل بولتون إلى نيويورك لان الزمن زمن حرب (ضد الإرهاب) وزمن إصلاح (الأمم المتحدة) وبما أن اسم المندوب هو كناية عن «برنامج» فان المهمة محددة وتقضي بتحويل مجلس الأمن من منتدى تملك فيه الولايات المتحدة ارجحية الدولة العظمى إلى مجرد امتداد للسياسة الخارجية الأميركية.

ومع ذلك هناك من يعتبر أن ما حصل فعلا هو إبعاد بولتون عن وزارة الخارجية من اجل تحرير رايس من ضغطه. هذا التقرير غير صحيح، لقد كان في وسع بوش التخلص منه بسهولة بعد الاعتراضات التي لاقاها ترشيحه،لم يفعل، أضف إلى ذلك أن المندوبية إلى مجلس الأمن هي، في الولايات المتحدة، رتبة وزارية تسمح لصاحبها بحضور المداولات والمشاركة في القرارات المتخذة على أعلى مستوى.

إن بولتون هو هدية بوش إلى العالم. ولقد بات مطلوبا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مراقبة البرنامج «الإصلاحي» الذي تقترحه واشنطن للهيئة الدولية ومراقبة الآثار الضارة دوليا لتصاعد نفوذ المحافظين الجدد. ولمنطقتنا نصيب كبير من هذه الآثار الضارة فبولتون كان على الدوام ومنذ سنوات مديدة في كل المعارك التي خيضت لتشجيع التطرف الإسرائيلي وحمايته.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)