قد تكون «القاعدة» منظمة وقد تكون منظمات مستقلة، أو متفرّعة عن مصدر واحد. إلا أنها، قبل هذا وذاك، وأهم من هذا وذاك، وعي وإيديولوجيا. ومعتنقو الوعي والإيديولوجيا هذين ليسوا مجانين أو معتوهين، كما قد يذهب البعض، وإن كان الوعي الذي يحملونه على قدر من الجنون أو العته كبير.

يقال هذا الكلام في سياق التذكير بـ«حرب الأفكار» التي كثيراً ما ازدهر الكلام عنها بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وتمدد من هناك الى مجالات التعليم والتربية وغيرهما. وفي السياق هذا، يُلاحَظ في بريطانيا اليوم، وقد تعرضت للضربات الارهابية، توجّه مُقلق الى اعتناق وعي قاعدي مضاد مفاده الغرف من المنهل الرجعي نفسه واعتماده ترس دفاع عن البريطانيين وحربة هجوم على القاعديين أو المشتبه بأنهم كذلك.

فيكتب، بهذا المعنى، جون هايز، النائب المحافظ، في مجلة «سبكتاتور»، عن أسباب الضعف التي أتاحت للارهابيين أن يتجرأوا على بلاده وينظروا اليها باستخفاف. وإذا بهذه الأسباب أربعة: برنامج «بيغ بروذر» التلفزيوني، وانهيار العائلة، وحقوق المثليين، والأصوات الضاجّة والمزعجة لشاربي الجعة (البيرة). وتعمّ هذه العظات «الأخلاقية» التافهة فيما تنشر «الأوبزرفر» تحقيقاً يقول إن قرابة نصف أبرز المدارس التي تخطط الدولة لانشائها في لندن تشارك مؤسسات إنجيلية في تمويلها. وهو ما يثير مخاوف فعلية من اعتمادها برامج تعلّم نظرية الخلق بدل نظرية النشوء والارتقاء. ولم يعد خافياً أن رئيس الحكومة توني بلير يجهد اليوم لتعديل ما فعله هو نفسه قبل سبع سنوات، حين أدخل في القانون المحلي قانوناً لحقوق الانسان، مُستقى من الشرعة الأوروبية لحقوق الانسان. فبهذا أسس بلير، في 1998، مبدأ بالغ الأهمية في بلد لا يزال يفتقر الى دستور مكتوب: ذاك أنه إبان الأزمات المحتدمة، تبقى للثقافة الديموقراطية أوجه لا تُمسّ، فلا يُتَسامَح، مثلاً، مع العبودية أو التعذيب والاضطهاد، ولا يُحدّ من حريات التعبير. ولئن رأى بعض المثقفين والناشطين الانسانيين أن مكافحة الارهاب لا تستوجب التعديل بحجة «الاستثناء» الارهابي، بقي ان الوجهة هذه شعبية وقوية. وهي قوة لا تنبع فحسب من حب العامّة للاجراءات «القوية»، إذ تصدر أيضاً عن سياسات زادتها قوةً وتجذيراً. تندرج في النطاق هذا المساعي التي اتبعها جورج بوش، وبدرجة أقل توني بلير، لتديين الحياة العامة، عطفاً على الارتكابات التي شهد عليها معسكرا غونتانامو وأبو غريب.

والحال أن الوجهة المذكورة، في مناهضتها التنوير وفي تجاوزها على الممارسة الديموقراطية، وجدت من يؤسسها في رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، حين توهّما مكافحة الشيوعية بالمسيحية والقيم الفيكتورية وإجراءات القوة والعسكرة، فكانت الساحة الأفغانية والارهاب الاسلاموي ثمرة الجهد المحموم هذا. ولا يزال الإغراء نفسه ماثلاً: فمن لا يقاوم الاستبداد التوتاليتاري والارهاب الأصولي بمزيد من التنوير والعلمنة، ومزيد من الديموقراطية، لا يكون يخوض حرب أفكار ونماذج، بل يكون يزرع ألف ابن لادن هنا وهناك، مبرهناً كم أن تلك الايديولوجيا التي تستند «القاعدة» اليها ناجحة ومؤثّرة ومُغرية بالتقليد.

وهذا ليس اقتراحاً بالتردد في ممارسة القمع للارهاب الذي يستحق أشرس القمع. بل اقتراح بعدم تكريم الارهاب وأفكاره عبر معاقبة المجتمع بجريرة الارهابيين، مرةً باحتقار عقله وإرجاعه الى الوراء ومرةً بالافتئات على حقوقه التي أحرزتها نضالاته المديدة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)