تختلف الأزمة التي تمر بها العلاقات السورية – اللبنانية، عن سواها من الأزمات التي شهدها مسار هذه العلاقات في فترات تاريخية سابقة، حيث تتميز بكونها أزمة بنيوية ومركبة، تطاول هذه العلاقات في ثوابتها التاريخية، وتؤسس لمستقبل مربك لها، كما أنها، بالإضافة إلى كونها أزمة بين النخب السياسية و"خاصة الحاكمة" في البلدين، امتدت إلى العلاقات بين الشعبين في البلدين.

وما من شك في أن المقاربة التقليدية، للعلاقات السورية – اللبنانية، والتي قامت في جزء كبير منها على شعارات سياسية فارغة، من نوع أخوية العلاقات، وتلازم المسار والمصير، فقدت أهميتها، وذلك نتيجة تفوق نسب الاستخدام غير البناء لأدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية في العلاقات بين البلدين.

إن أي مقاربة جديدة للعلاقات بين البلدين، لا بد أن تأخذ في الاعتبار جملة المحددات التي تحكم هذه العلاقات، وما إذا كانت هذه المحددات تدفع علاقات البلدين إلى صراع أم الى تلاقِ.

ومن أهم تلك المحددات: الواقع الجغرافي. فسوريا ولبنان يجمعهما قدر جغرافي واحد، يعطي لكل من الوحدتين السياسيتين قدرة نسبية معينة في التأثير على الوحدة الأخرى، فبقدر ما تشكل سوريا معبراً وممراً للبنان إلى البر العربي، يشكل الحيز اللبناني، بالمعنى الاستراتيجي، وعبر تضاريسه الحدودية الممتدة مع سوريا، مجالاً كاشفاً، ومهددا للجغرافيا السورية، سواء من خلال قربه اللصيق بالعاصمة دمشق، رمز الكيان السوري، ومركز ثقله السياسي والإقتصادي، أو من خلال مرتفعاته التي توفر مساحة رؤية نحو جنوب سوريا ووسطها وغربها، ما يعني من الناحية الاستراتيجية، إنكشاف الداخل السوري بمجمله، في مواجهة الامتداد التضاريسي اللبناني.

ويقودنا المحدد الجغرافي، إلى محدد أعمق وأبعد مضموناً، وهو إدراك كل من البلدين دورهما الإقليمي. وللتوضيح فإن هذا المحدد محكوم بطبيعة الرؤى والتصورات التي تحملها الزعامات السياسية لدورها وقدراتها، وبمعنى أكثر وضوحاً، إذا كان النظام السياسي في سوريا قد بنى دوره الإقليمي على القوة العسكرية النسبية التي يمتلكها، وعلى الموقع الاستراتيجي الذي أهّل سوريا للقيام بدور فاعل في التفاعلات الاقليمية في فلسطين والعراق ولبنان، و"تركيا في مرحلة معينة"، فان في لبنان أدواراً تبحث عن فاعلين. فلبنان يملك عناصر قوة كامنة، لا يتطلب تفعيلها، سوى وجود قوى سياسية مدركة لأهمية دور لبنان وموقعه الاستراتيجي في المنطقة. فبالاضافة إلى إمتلاك لبنان الخبرات وتراثا مهماً في المجالات الاقتصادية والمالية، فإنه يتوافر على قيم وخبرات ديموقراطية مؤهلة لأن تلعب دوراً مهماً تفرضه الضرورات والاحتياجات، وطبيعة التوجهات الدولية والإقليمية.

ثمة محدد آخر، يتعلق بخصوصية الحكم في كلا البلدين، والمعروف بهذا الخصوص أن سوريا محكومة منذ أكثر من 40 عاماً بنظام سياسي يقوم على مبدأ الحزب الواحد، أو القائد، ويشكل العسكر الفئة الأساسية المسيطرة فيه ، ويتبع نظام الاقتصاد الاشتراكي الموجه، في حين يتبع النظام السياسي في لبنان منهج التعددية الديموقراطية، بغض النظر عن الانتقادات التي يوجهها البعض الى طبيعة الديموقراطية اللبنانية، كما يتبع الخيار الليبرالي.

والواضح أن هذه المحددات، على حالها، لا تدفع بالعلاقات السورية – اللبنانية إلى أي نوع من أنواع التلاقي، فغالباً ما اتسمت هذه العلاقات بالتناقض والتوتر، باستثناء، ربما الفترة من 1976 حتى بداية 2005، وهي الفترة التي تم فيها إلغاء مفاعيل النظام السياسي في لبنان بل حتى وجوده، وباستثناء ذلك، ظلت هذه العلاقات أسيرة إختلاف طبيعة النظام السياسي في البلدين وتوجهاته السياسية والاقتصادية والثقافية، وكذلك الخلاف حول إدراك كلا البلدين لأدوارهما الإقليمية، وبالتالي إختلاف توجهاتهما، وأيضاً تحالفاتهما الدولية.

يضاف إلى ما سبق، وجود إشكاليات فنية على مستوى التعاون المؤسس بين البلدين، والذي تضمنته مجموعة الاتفاقيات المبرمة بينهما بعد 1990، "معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق" وفروعها، وأخواتها. فقد عانت هذه العلاقات من غياب آلية التنظيم المؤسس للتعاون نتيجة لإخراج الدور التنظيمي للمجلس الأعلى اللبناني – السوري المشترك، وإلغاء دوره في تنظيم التفاعلات على مستويات اللجان والمؤسسات المشكلة للتعاون السوري – اللبناني، وترك الأمور للمزاج السياسي يتحكم بها.

ولكن يبقى ثمة حقائق مهمة في واقع العلاقات السورية – اللبنانية، وهي انطلاق هذه العلاقات من مواريث تاريخية وحقائق جغرافية، أفرزت تمازجاً حضارياً ومصالح مشتركة، الأمر الذي يحتم على صانعي القرار في البلدين، البحث عن استراتيجية جديدة ومختلفة لمقاربة التعاون بينهما(...).

ولا شك في أن أولى القضايا المطلوب مراجعتها، جميع الاتفاقات وبرتوكولات التعاون بين البلدين، وصوغها بطريقة تلبي مصالحهما المشتركة، وتأخذ في الاعتبار المعطيات والوقائع المستجدة إقليمياً ودولياً. كما على البلدين تبريد جميع بؤر التوتر بينهما، بدءاً من قضايا الحدود البرية والبحرية، مروراً بمسائل تقاسم المياه، وتنظيم العمالة، والتجارة والترانزيت(...).

ويبقى ما بين لبنان وسوريا، شأنه ما بين كل الدول المتجاورة من مصالح مشتركة، واعتماد متبادل. ويزيد على ذلك في حالة البلدين، ما بينهما من تاريخ مشترك، وصلات متعددة. والمطلوب من صناع القرار في البلدين، الابتعاد عن منطق المناكفات السياسية، فمن شأن الاستمرار بهذا النهج أن يضر بمصالح الشعبين بالدرجة الأولى، وقد أدرك نفر من أخوتنا في لبنان هذه الحقيقة، عندما شكلوا فرق ترحيب بالوافدين السوريين في المصنع وعنجر، وننتظر فعلاً شعبياً سورياً مقابلاً.

مصادر
النهار (لبنان)