لعل ازمة الشاحنات على الحدود اللبنانية – السورية وما رافقها من مد وجزر وصعود وهبوط ساهمت الى حد بعيد وبأشكال مختلفة في توضيح صورة الواقع السياسي اللبناني المرتبك وتحديد معالم الخريطة السياسية الداخلية، وقد بدا واضحاً انها تغيّرت كثيراً بعد التطورات المتسارعة التي شهدها لبنان وابرزها الانسحاب العسكري والمخابراتي السوري من اراضيه في نيسان الماضي، سواء لجهة التحالفات او اعادة "التموضع" عند بعض الجهات السياسية، فبات خصوم الامس حلفاء اليوم، والمعارضة بدورها تبدلت فمنها من اصبح في الموالاة ومنها من ينتظر ويترقب ومنها من حسم امره اخيراً بعدما بقي في مرحلة معينة ضائعاً في نقطة وسط بين المعارضة والموالاة. ورغم تبدل في المواقع، ثمة في الواقع السياسي ما لم يتغير وهو ان المعارضة معارضات. بعضها يعارض الحكم ويوالي الحكومة، وبعضها يوالي الحكم ويعارض الحكومة، ليس في الخريطة السياسية اذاً، معارضة وموالاة بالمعنى الحقيقي للكلمة. كلاهما مشتت ويعكس واقعاً آخر مشابهاً كان قائماً بين اهل الحكم، وستثبت المرحلة المقبلة ما اذا كان قد تغير فعلاً ام لا. الامر مرهون بمستقبل العمل في مجلس الوزراء "مجتمعاً" وبالعلاقات بين اهل الحكم وتحديداً بين رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء، فالتفاهم بينهما سيعكس تغييراً اساسياً يصبح معه الحكم فريقاً واحداً - وقد عبرا عن هذا التوجه في غير مناسبة – بازاء معارضات لم تحسم امرها بعد لجهة التوحد ضمن برنامج وطني واضح.

وكان لأزمة الشاحنات "فضل" في السؤال عن اصدقاء سوريا ومؤيديها من اهل السياسة في لبنان. اين هم اليوم وماذا يفعلون؟ اوليسوا معنيين كغيرهم بهذه الازمة؟

بدا المشهد السياسي خالياً من هؤلاء، حتى منذ ما قبل "ازمة الحدود". ثمة سؤال كبير ايضاً املته هذه الازمة التي اصبحت عابرة مع عبور مزيد من الشاحنات امس، وكان عن اصدقاء سوريا من اهل الحكم في لبنان، وكلهم اصدقاؤها. فبعد زيارة رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة لدمشق خارقاً الجمود الذي ساد العلاقات اللبنانية – السورية في الاشهر الاخيرة، كان السؤال بديهياً عن مواقف كثيرين اولهم رئيس مجلس النواب نبيه بري: ما هو موقفه من الازمة المستجدة؟ ولماذا لا يوظف علاقاته بسوريا في خدمة عودة الحياة الى مجاريها بين البلدين؟ وكان السؤال تكراراً عن سبب عدم انعقاد قمة لبنانية – سورية طارئة بين الرئيسين بشار الاسد واميل لحود وان في اطار دعوة المجلس الاعلى السوري – اللبناني الى الاجتماع وهو انشئ اصلاً تحت عناوين معاهدات الاخوة والتعاون والتنسيق، والمعاهدات تعقد عادة لتكون الآلية الصالحة لتجاوز الازمات...

اذا كان بعض المحسوبين على "الخط" قد ابدى استعداده لـ"التدخل" والمساعدة في حل الازمة مشترطاً ان يطلب منه الامر "رسمياً"، فإن بعض اصدقاء سوريا حاول ولم يوفق. ومن هؤلاء الرئيس نجيب ميقاتي الذي اتصل بالرئيس الاسد في مرحلة انتقالية حرجة، كانت حكومته مستقيلة وفي مرحلة تصريف اعمال، وكان الرئيس السنيورة مكلفاً تأليف الحكومة. وفي كل الحالات فإن "العلاقات الشخصية شيء والعلاقات بين دولة ودولة شيء آخر". بدا الامر كذلك لميقاتي خلال الزيارة غير المعلنة التي قام بها لدمشق قبل مدة، بعد استقالته وتأليف الحكومة الجديدة، والتقى فيها الرئيس الاسد.

قمة "محتملة"...

واما عن احتمال عقد قمة لبنانية – سورية بين الرئيسين الاسد ولحود، فتقول اوساط رئاسة الجمهورية ان التواصل مستمر بينهما ولم ينقطع يوماً وكان آخر اتصال بين الرئيسين قبل مدة قصيرة ابان "ازمة الصيادين" في الشمال الذين احتجزتهم السلطات السورية ثم افرجت عنهم. وتشير هذه الاوساط الى ان ثمة لجاناً لبنانية – سورية مشتركة تم التفاهم على اجتماعات لها في القريب العاجل خلال زيارة الرئيس السنيورة لدمشق ومنها لجان الدفاع والامن والخارجية، وبعد هذه الاجتماعات تصبح الدعوة الى عقد اجتماع للمجلس الاعلى السوري – اللبناني محتملة اذا اقتضت الضرورة. علماً ان آخر اجتماع للمجلس كان في نيسان الماضي بعد يومين على خطاب الرئيس الاسد الذي اعلن فيه سحب القوات السورية من لبنان. وقبل هذا الاجتماع ومنذ عام 2000، عقدت قمتان بين الرئيسين اللبناني والسوري، الاولى في لبنان عندما زار الرئيس الاسد بيروت عبر المطار للمرة الاولى بعد توليه الحكم، والثانية في سوريا عام 2003 قبل فترة من التمديد لرئيس الجمهورية.

واذا كان البيان الوزاري للحكومة الجديدة قد لقي ارتياحاً في دمشق على اعلى المستويات وترجم زيارة فورية لرئيسها فور نيل الحكومة الثقة فإن العلاقات الطيبة بين الرئيسين الاسد ولحود تبعث على الاعتقاد ان وصل ما انقطع بإعادة بناء علاقات لبنانية – سورية قائمة على الثقة والاحترام المتبادل يبقى ممكناً واقوى من الازمات العابرة ومنها ازمة الشاحنات، وفي تاريخ العلاقات بين لبنان وسوريا شواهد كثيرة على اهمية العلاقات الشخصية والانسانية بين المسؤولين في البلدين. فالرئيس الراحل سليمان فرنجية كان يفتح حدوداً مقفلة بين لبنان وسوريا "على الهاتف" وكان يكفي ان يتصل بالرئيس السوري لرفع العارضة الخشبية واستئناف حركة العبور في الاتجاهين بين بيروت ودمشق، وليس في مسار العلاقات الراهنة بين الرئيسين لحود والاسد ما يوحي بأنها أقل "حرارة" من العلاقات التي كانت قائمة في تلك الحقبة، وان كانت الظروف مختلفة واقل تعقيداً مما هي عليه في المرحلة الحالية، لبنانياً وسورياً واقليمياً.

مهما يكن من امر، فإن استيعاب اللبنانيين والسوريين المتغيرات والتعامل معها بهدوء، سيكون كفيلاً باعادة بناء العلاقات بينهما على اسس صادقة واقوى من الماضي، واما عملية "الاستيعاب" هذه فأول شروط نجاحها ازالة عقدة مشتركة عند كثيرين في لبنان كما في سوريا وان كانوا في السياسة على طرفي نقيض، سببها التعامل مع الانسحاب السوري من لبنان على اساس انه هزيمة لسوريا. نسي هؤلاء او تناسوا ان الانسحاب اياً تكن ظروفه، جاء ترجمة لقرار من الرئيس بشار الاسد، كان بالفعل قراراً تاريخياً وجريئاً، ثم من قال يوماً ان الجيش السوري دخل الى لبنان ليبقى فيه الى الابد؟ لعل خير جواب في وثيقة الوفاق الوطني، في اتفاق الطائف.

الانسحاب اذاً ليس هزيمة، والتحدي الاكبر امام اللبنانيين والسوريين على السواء هو ان يتمكنوا من اعادة بناء علاقاتهم بصدق وصراحة ووضوح بعيداً من الشعارات البرّاقة والمصالح الشخصية عند بعض من شوهوا هذه العلاقات وامعنوا فيها تدميراً كرمى لمصالحهم، على مدى اكثر من ربع قرن!

مصادر
النهار (لبنان)