كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك أول رئيس أوروبي يستقبل الدكتور بشار الأسد بحياة والده وقبل أن يصبح رئيساً استقبالاً مهيباً لا يقل عن استقبال رؤساء الدول، وفهم المراقبون حين ذاك أن الرئيس الفرنسي راض عن وراثة بشار الأسد لأبيه وربما داعماً لهذا الخيار بشكل واضح لا لبس فيه.

وعندما تولى الرئيس بشار الأسد سدة الرئاسة أرسل شيراك وفداً رسمياً إلى سورية يعرض استعداد الحكومة الفرنسية لأي تعاون وفي مختلف المجالات وبدون تحفظ، وبالفعل أوكل الرئيس بشار الأسد للفرنسيين أمر دراسة واقع إدارة الدولة السورية والمصارف والقضاء وغيرها، ودرس الفرنسيون ما كلفوا به وتقدموا بتقارير ومقترحات بدأ تنفيذ بعضها، وفي الوقت نفسه عين الرئيس الفرنسي أهم مستشاريه الخاصين سفيراً في سورية وأوصاه بأقصى درجات التعاون كما سربت حينها أوساط السفارة الفرنسية في دمشق.

كانت الرغبة بالتعاون إذن غير محدودة من قبل الجانب الفرنسي سواء في المساعدة بالتطوير والتحديث في الداخل الذي طرحه الرئيس بشار الأسد فور توليه السلطة أم في تنسيق المواقف تجاه القضايا الإقليمية وخاصة تجاه الخطط الأميركية لغزو العراق والصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي، وكان موقف البلدين المتماثل من غزو العراق خير دليل .

كما كان التعاون والتنسيق في أحسن حالاته تجاه التواجد السوري في لبنان والوضع اللبناني برمته (مع بعض المنغصات والخلافات الثانوية هنا وهناك)، خاصة مع تولي المرحوم رفيق الحريري رئاسة الوزارة اللبنانية بالرغم من الخلافات الجدية بينه (وهو الصديق الصدوق لشيراك) وبين الرئيس إميل لحود (وهو الحليف الرئيس لسورية في لبنان).

ساءت العلاقات منذ منتصف عام 2004 عندما شككت فرنسا بصدق المواقف السورية من التنسيق معها وشعرت (بخيبة أمل كبرى كما صرحت أوساطها)، وزعمت أن السياسة السورية إنما تستخدم علاقتها مع فرنسا (ومع أوروبا استطراداً) لتحسين مواقفها تجاه الإدارة الأميركية، وبالتالي فإن السوريين لايأخذون هذه العلاقات ببعدها الاستراتيجي (حسب الفرنسيين) وإنما يستخدمونها ورقة ضغط على الإدارة الأميركية،

وتزامنت الشكوك الفرنسية وتنامت مع القرار السوري بالتمديد للرئيس إميل لحود لسنوات ثلاث، بالرغم من معارضة المرحوم رفيق الحريري وأحزاب وتيارات سياسية لبنانية عدة معظمها صديق أو حليف لفرنسا، وتجاهلاً للرغبة الفرنسية وبدون التنسيق معها، وهي (الأم الحنون) في لبنان على رأي قسم من اللبنانيين والراعي الضمني لمصالح بعض الفئات المسيحية تاريخياً، فانفجر الخلاف السوري ـ الفرنسي علناً .

واعتبرت فرنسا أن سياسة سورية (خيانة لكل التزاماتها إزاء فرنسا ولن تنساها) وتعاونت السياسة الفرنسية مع السياسة الأميركية وعقدتا اتفاقاً (تسوية) بينهما حول لبنان وصدر القرار 1559، الذي يلبي نصفه الأول (خروج القوات السورية من لبنان) رغبة الفرنسيين، ويستجيب نصفه الثاني (نزع سلاح حزب الله والفلسطينيين) للرغبة الأميركية، وما لبثت العلاقات السورية الفرنسية تزداد سوءاً وعداء وتعبر عن نفسها بتراشق التصريحات النارية بين الطرفين التي لم تنته حتى الساعة.

ظهرت أكثر المواقف الفرنسية عداء خلال زيارة شارون لفرنسا في الشهر الماضي، حيث رحب به الرئيس شيراك ونوّه خلال محادثاتهما بالقرار 1559 وخاصة بالفقرة المتعلقة بنزع سلاح (الميليشيات) أي سلاح حزب الله والفلسطينيين وأكد أن الفضل في إصدار القرار يعود لفرنسا،

وحذر سورية من القيام بحسابات خاطئة خاصة في شأن تغير الأوضاع في إيران بعد الانتخابات الرئاسية والأوضاع في العراق بعد الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة، وأشار أن الوقت لايعمل لمصلحة سوريا. ويبدو أن التصريحات الفرنسية كانت رسائل واضحة لسورية شديدة اللهجة وإنذاراً بقطع ما تبقى من خيوط اتصال بين البلدين.

لم يعد التباعد كبيرا بين السياستين الفرنسية والأميركية تجاه سوريا، فكلتاهما تحذران سورية يومياً بعدم (التدخل) بشؤون لبنان وعدم التأثير في سياساته، وتحرضان جهات لبنانية عديدة على استمرار عدائها لسوريا، وتعتبران أن حزب الله (حركة إرهابية) وتتهمان سورية بدعمها ودعم منظمتي حماس والجهاد الفلسطينيتين،

وتعلنان في كل مناسبة رغبة كل منهما بضرورة أن يغير النظام السوري سياساته الداخلية وخاصة تلك المتعلقة بالحريات الديمقراطية والأحكام العرفية وقانون الطوارئ ومنظمات المجتمع المدني وغيرها، إلا أن السياستين الأميركية والفرنسية غير متفقتين على كل شيء تماماً، ويبدو أن الخلاف يقع على الأسلوب الناجع القادر على أن يجبر السياسة السورية على التغيير،

حيث تخشى السياسة الفرنسية من العنف المحتمل في سورية إذا تخلخل النظام، وتتمنى أن يكون التغيير بواسطة النظام ذاته، ومن خلال قرارات وإجراءات يتخذها بنفسه، وبالتالي يكون انتقالاً سلمياً، بينما لاتهتم السياسة الأميركية بالأسلوب سواء كان باستخدام ضغوط اقتصادية أو سياسية أو غيرهما، وسواء كانت ليناً أو عنفاً.

راهنت السياسة السورية منذ احتلال العراق على إمكانية استيعاب السياسة الأميركية الهجومية والمتطرفة وذلك بالاستعانة بأوروبا وبعقد اتفاقيات (صفقات) معها هنا وهناك، سواء فيما يتعلق بضبط الحدود مع العراق أم تجاه المنظمات الفلسطينية أم حتى باستئناف المحادثات مع إسرائيل،

واعتقدت أن مثل هذه الاتفاقيات (الصفقات) لو حصلت كفيلة بإرضاء الأميركيين والوصول إلى تسوية معهم وتخفيف ضغوطهم، إلا أن هذه السياسة لم تصل إلى نتائج مرضية فالمطالب الأميركية لا تنتهي والرغبة الأميركية جامحة نحو غنيمة كاملة، وهذا ما يفسر رفض الإدارة الأميركية عقد أية محادثات مع سوريا.

لقد خسرت السياسة السورية أو كادت الصديق الأوروبي من خلال خلافاتها مع فرنسا (ولم تنفع المواقف الألمانية والبريطانية المرنة) ولم تربح في الوقت نفسه علاقات شبه متوازنة مع الإدارة الأميركية، وهكذا تضاعفت الضغوط عليها من الأوروبيين والأميركيين، دون ان يكون لها بديل عربي أو دولي، ودون أن تعود للداخل لتستقوي به وتقيم وحدة وطنية قادرة على مواجهة هذه الضغوط.

من طرف آخر وجدت السياسة الفرنسية في نفوذها المتجدد في لبنان بديلاً عن رهانها السابق على سورية الذي كان يؤهلها للدخول شريكاً في القضايا الإقليمية ويقوي مواقفها ومواقف الأوروبيين أمام السياسة الأميركية، لكن الأخطر إذا كان الرئيس الفرنسي يريد تحسين علاقات حكومته مع الإدارة الأميركية من خلال البوابة الإسرائيلية

ويتحول الموقف الفرنسي (ثم الأوروبي) إلى موقف استراتيجي مختلف ليس تجاه سورية فقط بل تجاه الصراع العربي الإسرائيلي والقضايا العربية عامة، وفي الحالات كلها فالخسارة السورية والعربية لاشك فيها. والمقلق في الأمر أن لا السوريين ولا الفرنسيين يعملون جدياً حتى الآن لترميم العلاقات بينهما حتى لو كان ذلك بتهدئة التصريحات المتشددة وهي أولى الخطوات.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)