في خضم صراع عنيف ومصيري، مثل الذي يجري في العراق، لن يغفر التاريخ للنخب والقوى السياسية التي أضاعت البوصلة سواء بانتقالها للجانب الآخر، أو بتخاذلها وجبنها، أو بترددها وحيرتها ريثما ينتصر أحد الطرفين.

ميدل ايست اونلاين
في آخر تصريح له عبر السيد خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية الإيرانية عن اعتقاده بأن قوة الهيمنة الأمريكية على المنطقة قد أصابها الضعف بسبب الوضع في العراق، ويفسر تصريح خامنئي هذا التشدد الإيراني المتصاعد تجاه المحاولات الأمريكية الرامية لمنع إيران من امتلاك الأسلحة النووية.

بالتأكيد فإن لشعور السيد خامنئي ما يبرره فمركز الولايات المتحدة اليوم في المنطقة لم يعد كما كان عليه عشية الحرب على العراق، وفضلاً عن المعارضة المتزايدة للحرب داخل الولايات المتحدة ثمة إحساس بأن وهج (الانتصارات العسكرية) في أفغانستان والعراق قد فقد بريقه بسبب استمرار المقاومة وانكشاف محدودية القدرة الأمريكية في السيطرة وتوجيه الأحداث.

في سوريا لاحظ البعض كيف تتغير لهجة التعامل مع الحكومة السورية متنقلة من التهديد القاسي والمكشوف والمتلاحق إلى لغة أقل حدة مع قدر من الإصرار غير مؤكد على تحقيق المطالب الأمريكية المعلنة.

تشكل الساحة اللبنانية اختباراً آخر لتبدلات السياسة الأمريكية، حيث لم تكتف الولايات المتحدة بالاستعانة بالشريك الفرنسي بل بدأت كما تشير الدلائل بتوجيه النصح للقوى السياسية اللبنانية المعارضة لسوريا للدخول في حوار مع الحكومة السورية بدل توجيهها في اتجاه يساهم في الضغط على سوريا وفقاً للأجندة القديمة، وحتى الساعة لم تتمكن الولايات المتحدة من إحراز تقدم يذكر في نزع سلاح حزب الله رغم نجاحها في قوننة ذلك الهدف وتشريعه عن طريق الأمم المتحدة بقرار مجلس الأمن رقم 1559.

ليس خافياً شعور الحكومة السورية بالراحة النسبية نتيجة تحررها من بعض الضغوط وللأسف فقد تسبب ذلك الشعور في تشديد القبضة الأمنية في الداخل بدل أن يستثمر في إطلاق مبادرات باتجاه الانفتاح على المجتمع.

و في العراق ذاته تصاعدت الخسائر الأمريكية بينما تخامدت الحملات العسكرية ضد بؤر المقاومة وظهرت بوادر الميل الأمريكي لمقاربات أقل عنفاً تتمثل في التمهيد لتفاهم ما مع بعض قوى المقاومة، ربما بهدف التمكن من شقها وضرب بعضها بالآخر بالسياسة بدل المدفع، وقبل ذلك كله ظهرت مؤشرات التراجع عن تطبيق الضغوط السياسية والدبلوماسية التي بدأت الولايات المتحدة بتطبيقها على كل من السعودية ومصر تحت عنوان ( دمقرطة المنطقة ) بل إن تعبير "الشرق الأوسط الكبير" الذي أطلقه بوش كشعار للحملة الشاملة على المنطقة لم يعد يسمع اليوم إلا نادراً.

في فلسطين تحاول الولايات المتحدة تهدئة الوضع ودفع حكومة شارون لتقديم أي شيء يمكن النظر اليه كتنازل أو انجاز، كما أصبحت سياستها أكثر حذرا في اظهار الدعم لسياسة الاستيطان ومصادرة الأراضي، وأظهرت مزيدا من الاهتمام بدعم حكومة السيد عباس وتوطيد سلطتها.

وفي أقصى المغرب العربي فوجئ العالم بحركة انقلابية لم تخطط لها الولايات المتحدة مما اضطرها للوقوف بسرعة ضدها والضغط على أوروبا والاتحاد الإفريقي لاتخاذ موقف مشابه ريثما تستعيد المبادرة في التعامل مع الوضع الجديد.

هكذا تعيدنا قراءة تبدلات السياسة الأمريكية في المنطقة من إيران إلى موريتانيا إلى بؤرة واحدة هي العراق، حيث تغدو المقاومة العراقية الرقم الصعب الذي يدفع الإدارة الأمريكية لتعديل سياساتها في المنطقة.

بعد احتلال العراق وسقوط بغداد اتجهت عواطف وقلوب الملايين في سوريا وخارجها نحو العراق في إحساس طاغ بأن ما يحدث في بغداد سيقرر مصير المنطقة برمتها وخاصة سوريا.

وللأسف فإن تلك الحقيقة الجوهرية التي استوعبها الشعب بالفطرة غابت عن إدراك بعض النخب التي أصرت أن لا مصلحة لها في النظر خارج الحدود السورية التي أقرتها معاهدة سايكس – بيكو، بل واستغربت كيف يصرف البعض اهتمامه في نصرة العراق، ولشدة نخبويتها لم تستمع لوقع أقدام مئات الألوف من المتظاهرين في لندن وعواصم عالمية أخرى ضد الحرب في العراق.

ومهما يكن من أمر فإن انزياح الخطر العسكري الأمريكي عن كاهل سوريا إن ترسخ (وهو غير مؤكد حتى الآن) هو حدث أكبر من انتصار والفضل فيه يعود للمقاومة العراقية البطلة بالتأكيد.

ليست سورية وحدها المستفيدة من انكسار هيبة الهيمنة الأمريكية ولكنها المستفيد الأكبر، وفي مقابل ذلك يمكن أن يدفع الشعور بفقدان الهيبة الادارة الأمريكية لمحاولة احراز انتصار ما في مكان خارج العراق كوسيلة لاستعادة مصداقية القوة الأمريكية، وسورية وايران في مقدمة الساحات المرشحة لهكذا رد فعل. وبالتالي فنحن أمام توازن هش يتضمن احتمالات خطيرة يفترض ان لا يغيبها مجرد ظهور مؤشرات لانكفاء أمريكي.

وبرأيي أن أخطر الاحتمالات يمكن ان يتطور اذا تمكنت الولايات المتحدة من التقاط أنفاسها في العراق، حيث سيجد تيار المحافظين الجدد في الادارة الأمريكية فرصته الذهبية لاستعادة رصيده السياسي، واعادة الزخم المفقود لحملته العسكرية العالمية، حين ذاك لن يكتفي صقور الادارة الأمريكية باستعادة الوضع السابق ولكنهم سيلجئون بالتأكيد لتطوير هجومهم على أكثر من محور وفي المقدمة محور سورية.

السياسة تنبع دائما من توازن القوى، ومثلما يتوجب اعطاء أهمية قصوى لدراسة تبدلات موازين القوى في الواقع يتوجب أخذ الحذر من نتائج انقلاب تلك التبدلات وعدم النظر اليها باعتبارها واقعا منتهيا، أما الاتفاقات والضمانات والوعود والصفقات فلا تساوي قيمة الحبر الذي تكتب به حين تتبدل موازين القوى.

تصاعد المقاومة العراقية سيضعف روح المبادرة لدى الادارة الأمريكية ويضعها في مركز الدفاع، وشيئا فشيئا سيبدأ الرأي العام الأمريكي بالغليان، وتتجه السياسة الأوربية نحو الانفصال عن السياسة الأمريكية،وتتصاعد معارضة الرأي العام العالمي، وتضعف مواقع حلفاء أمريكا في المنطقة، ويبدؤون بالابتعاد عن سفينتها الغارقة. وداخل العراق فان نفوذ الأحزاب والقوى التي ارتبطت بالاحتلال سوف يضعف، وتبدأ الغشاوة بالانجلاء عن أوهام الاستقواء بالأمريكي وبدلا من ذلك سيبدأ التفكير بالثمن الذي يتوجب على من ساند الاحتلال دفعه، وبانهيار الطبقة السياسية الحالية التي جلبها الاحتلال سيكون من الصعوبة بمكان ايجاد بديل عنها.

في خضم صراع عنيف ومصيري، مثل الذي يجري في العراق، لن يغفر التاريخ للنخب والقوى السياسية التي أضاعت البوصلة سواء بانتقالها للجانب الآخر، أو بتخاذلها وجبنها، أو بترددها وحيرتها ريثما ينتصر أحد الطرفين. أما الكتل الشعبية التي تختزن روح الأمة فلا تنفك تنخرط بالصراع وتزيد من زخم انخراطها به ودفعها له حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

مصادر
ميدل إيست أون لاين (لبنان)