أثارت التجليات الميدانية المتنوعة للحراك الكردي في سوريا وأهمها أحداث القامشلي ربيع العام المنصرم والتظاهرات التي واكبت مقتل الشيخ معشوق الخزنوي، ربطاً بنجاح الانتخابات العراقية واختيار جلال طالباني رئيساً للبلاد، أثارت جديداً من الحوارات والتساؤلات حول راهن المسألة القومية الكردية في سوريا ومستقبل تطورها.

مبدئياً آن الأوان كي ننظر جميعاً الى الوضع الكردي ليس بصفته وضعاً غريباً ومنبوذاً وحالة مرفوضة قومياً بل على أنه جزء تكويني وحيوي من نسيج المجتمع، متجذر في تاريخه وحياته السياسية والاجتماعية منذ مئات السنين ويرتبط عضوياً مع مشروعه النهضوي العام في مواجهة أطماع القوى المتربصة ببلادنا شراً(...).

إن العودة إلى قراءة متحزبة قومياً لآلية تكون مجتمعنا، وهو الذي لم يحظَ بفرصة زمنية خاصة من التطور الذاتي المستقل طوال عقود من الاستعمار، والطعن تالياً بحق هذه الكتلة القومية أو تلك ودورها، هي عودة خاسرة ومربكة لجميع الأطراف، وسوف تؤدي إلى إشكالات واندفاعات غير محمودة جراء بروز وجهات نظر متنوعة وحتى متناقضة أحيانا، حول أحقية القوى القومية المتعددة في صياغة بنية هذا المجتمع وما صار إليه، مما يشجع، وتجنباً لمعارك مجانية لا طائل تحتها، على ضرورة الاحتكام إلى الوقائع التاريخية الراهنة والاعتراف بحقائقها القائمة التي تؤكد أن لحمة مجتمعنا هي خليط من القوميات المختلفة التي تشاركت العيش على أرضه منذ القدم: عرب وكرد وأرمن وشركس وآشوريون وغيرهم، ساهمت جميعها في صياغته وإيصاله إلى ما وصل إليه اليوم. مما يعني في ما يعنيه، ضرورة الإقرار الواضح والصريح بوجود الشعب الكردي كجزء عضوي من تركيبة المجتمع السوري يشكل القومية الثانية بعد العرب، والإقرار بحضور مسألة سياسية نضالية ترتبط بحقوقه القومية المشروعة، كحق المواطنة والحقوق الثقافية والسياسية الأخرى، بما في ذلك حل قضيته القومية حلاً ديموقراطياً.

المجتمعات العربية وخاصة نخبها السياسية والثقافية بأطيافها المختلفة القومية واليسارية والإسلامية لا تزال تعيش في أوهامها، بعيداً عن جديد العصر ونقد تجربتها، ويرفض معظمها أي اعتراف متساوٍ بالآخر القومي بحجة أنه يهدد الهوية العربية ومشاريعها، والتي ثبت بعد خمسين عاماً فشل حمايتها وتطويرها، لتكرس القطرية دون رجعة وتصبح لكل دولة وطنية مصالح متضاربة ومتباعدة مع أشقائها، وتغدو سمة العروبة التنابذ والاستئصال أكثر مما هي أداة تفاهم وتوحيد!! (...)

أما في الجانب الكردي فتتقدم ايضاً ضرورة القطع مع المقولات والمفاهيم والثوابت العتيقة، والوقوف موقفاً نقدياً حازماً من أولوية الانتصار للنضال القومي، ومن الرؤية الاستراتيجية " الثورية " القديمة التي اعتمدها معظم القوى السياسية الكردية على مختلف مشاربها كي تصل إلى أهدافها وحقوقها القومية. استراتيجية العمل عبر مختلف الوسائل، وخاصة منها، الكفاح المسلح والبؤر الثورية، من أجل كسر الحلقة الضعيفة من السلسلة التي تؤلف كردستان التاريخية، مرة في إيران، وأخرى في العراق، وثالثة في تركيا، استراتيجية تغليب الغاية السياسية القومية على ما عداها، وبشكل خاص على هدف النضال الديموقراطي العام في المجتمعات التي تنتشر فيها التجمعات القومية الكردية، بصفته الهدف الوحيد الذي يعالج تلقائياً، ويحل سلمياً، كل الإشكالات والمعضلات القومية مهما غدت صعبة ومعقدة.

(...) عززت هذه الحقيقة في الخصوصية الكردية، الدروس والعبر المستخلصة من الهزائم والانكسارات التي شهدها النضال الكردي وما كابدته ثوراته المعاصرة، وقوة حضور العوامل العالمية والإقليمية ودورها في إجهاض طموحه القومي بعد أن وصلت "اللقمة إلى الفم " في غير لحظة من لحظات تاريخه: جمهورية مهاباد في إيران 1947 ، اتفاق آذار في العراق 1975 وغيرها، الأمر الذي دفع موضوعياً، كي تتقدم رؤية استراتيجية جديدة تعتمد أساساً الممر الديموقراطي طريقاً وحيدةً لانتزاع الحقوق القومية للأكراد بما في ذلك حقهم في تقرير مصيرهم.

الاعتراف بهذه الحقيقة يفترض بالنخب الكردية المبادرة جدياً كي تحرر سياساتها مما كان يشوبها من تعصب أو تخصص قومي، نحو تقديم الأهداف الديموقراطية العامة على ما عداها، وربط همومها الخاصة وشعاراتها لرفع الظلم والاضطهاد القومي بالشعارات الديموقراطية، بتبنٍ صريح لبناء النظام الديموقراطي ودولة المواطنة والمؤسسات والقانون هدفاً، واعتماد خيار النضال السياسي السلمي والعلانية، أسلوباً، على قاعدة تربية الذات وتثقيفها، كي يصبح هذا النضال منهجاً أكيداً وثابتاً، لا عملاً ظرفياً وموقتاً، ما يمنح النضال الكردي موضوعياً وذاتياً، وفي ضوء حالة الحراك والنشاط التي تميزه اليوم، موقعاً أمامياً في مسار التغيير الديموقراطي في البلاد، وربما لن يمر وقت طويل حتى تتقدم القوى الكردية الصفوف من أجل نصرة الديموقراطية وتتصدر قائمة المناضلين الديموقراطيين أسماء المثقفين والسياسيين الأكراد.

وحين يختار العرب والكرد وقواهما الحية استراتيجية النضال الديموقراطي لحل المسألتين القوميتين الكردية والعربية على حد سواء، فهو اختيار يتمثل جيداً دروس هزائمهما المريرة ويستند تالياً الى عدد من الحقائق الملموسة الداعمة.

فأولاً : إن النضال الديموقراطي يعني في أحد وجوهه، نضالاً من أجل مساواة جميع القوميات والاثنيات في نظر المجتمع والقانون، وتالياً، نضالاً من أجل الحقوق المشروعة للشعب الكردي، حقه في المواطنة، حقوقه الثقافية والسياسية، وحقه المتساوي في المشاركة في إدارة السلطة والدولة.

ثانياً : إن اعتبار الديموقراطية المدخل الوحيد لحل المسألة القومية سيعمق، بلا شك، حالة التلاحم النضالي بين كل القوى السياسية العربية والكردية التي يوحدها هدف التغيير الديموقراطي، ويخلق واقعاً من الثقة والاطمئنان بين الشعب الكردي والشعوب التي يقاسمها العيش المشترك، مزيحاً "الشعور الملتبس" بأن الشعب الكردي يخفي وراء نضاله حسابات ومصالح ذاتية ليس إلا، وأنه يترقب الفرصة المناسبة لتحقيقها دون اعتبار للمصلحة الوطنية العامة، كما يزيل في المقابل الإحساس بالظلم الذي تراكم تاريخياً لدى الأكراد بأنهم كانوا دائماً وقوداً لمختلف القوى السياسية المتصارعة، أو جسراً عبر من فوقه هذا الطرف أو ذاك نحو أهدافه السياسية الخاصة ومن ثم تناسى ما رفعه من شعارات لنصرة الحقوق القومية الكردية. وما سبق سوف يوفر مناخاً جديداً وصحياً يضع الجميع على قدم المساواة في الحرص والمسؤولية الوطنية ويقطع الطريق، مرة والى الأبد، على استخدام المسألة الكردية كوسيلة لتعزيز سلطان الأنظمة أو ورقة ضغط في صراعاتها وتسوياتها الإقليمية.

ثالثاً : يكتسب التأكيد على أولوية النضال الديموقراطي أهمية نوعية في اللحظة الراهنة لدعم دعوات الإصلاح السياسي الديموقراطي في مجتمعنا نحو مستقبل تسود فيه الحرية والتعددية واحترام حقوق الانسان ويغدو الوطن فيه وطناً للجميع بما يجسر الهوة بين الشعوب، ويجنبها مخاطر الانزلاق إلى صراعات قومية مجانية ولا طائل تحتها. فاستراتيجية النضال الديموقراطي هي الوحيدة الكفيلة بمواجهة الأجواء التي تزداد تهيؤاً لتقدم حركات قومية متطرفة خصوصاً في الجانب الكردي تسعى إلى التأثير في الجماهير الكردية واستمالتها على قاعدة الظلم التاريخي الذي تعرضت له من القوميات الأخرى.

أخيراً، ليس غير نصرة الحريات واحترام التعددية وحقوق الانسان، ما يشكل مناخاً لا غنى عنه كي نواجه جميعاً كل المعضلات القومية والسياسية والإنسانية ونتصدى للتحديات الماثلة أمامنا، في عالم لا مكان فيه ولا دور إلا للشعوب المتحدة والمتكاتفة. فالمعاناة العربية والكردية في سوريا هي معاناة واحدة، وتختصرها عبارة واحدة، هي غياب الديموقراطية. وإذا كانت سوريا مقدمة على خيار ديموقراطي كحل لا مهرب منه لأزماتها فان حل المسألة الكردية شرط ضروري لنجاح أي نظام ديموقراطي.

مصادر
النهار (لبنان)