"إذا كنا فشلنا في المحافظة على ذاكرتنا، او في الاستفادة من مخزونها، فلا شيء يحول اليوم بيننا وبين اعادة بناء هذه الذاكرة، فلا تستقوي طائفة على طائفة، ولا تتجنّى فئة على فئة، لئلا نكون بالاستقواء حينا وبالتجني حينا آخر، قد مهدنا الطريق الى اشعال الحروب نفسها التي فات ذاكرتنا شرف الاعتبار بسلبياتها واخطارها الجسيمة".

غسان سلامة

وزير لبناني سابق في ندوة عن "ذاكرة الغد" ("النهار" 31/3/2001)

هل كنا في حاجة الى "اعتراف" من الاستاذ محسن ابرهيم دينامو الحركة الوطنية في القرن الماضي، لندرك ان لبنان قد جرى تحميله، سورياً وفلسطينياً وعروبياً واسلامياً وشيوعياً وتقدمياً وقومياً وعراقياً وليبياً ويمنياً جنوبياً الخ... اكثر مما كان قادرا على التحمل، مما "اضطر" جماعات فيه الى "الاستجارة" بالعدو الاسرائيلي، إن لم يكن العدو هو الذي استغل التحميل غير العادل وغير الانساني وغير القومي وغير الوطني الخ... للفريق المسيحي للايحاء لجماعات فيه ان عدو عدوك يمكن ان يصبح في وقت ما "صديقك"؟

ان "نوم" الامين العام لمنظمة العمل الشيوعي على هذا الخطأ قد جعله مميتا، بدليل الحال التي يتخبط فيها لبنان اليوم، وعلى ايدي ورثة الحركة الوطنية – رغم نعي النائب وليد جنبلاط لها – والتفكك الذي نواجه منذ قيام حكم الطائف مطلع تسعينات القرن الماضي.

الا ان الخطأ غالبا ما يجر الخطأ، لا الصواب.

وهذا ما حصل بعد الطائف. اذ استسلم للحكم السوري الفريق الذي اعتبر نفسه منتصرا، وهمّش الفريق الآخر الشريك الاساسي له في الوطن. وقَبِلَ ان يتقاسم والسوري السلطة والدولة اسلابا ومغانم؛ وهذا يذكرنا باستسلام سابق دفعته الحركة الوطنية ثمن اخطائها مطلع عام 1976، وتحقق مع دخول الجيش السوري الى لبنان اوائل حزيران من ذلك العام، وتطرق اليه بالتفصيل الرئيس الراحل حافظ الاسد في خطابه الشهير في مدرج جامعة دمشق في 20 تموز، متهما الفلسطينيين وعلى رأسهم السيد ياسر عرفات، واركان الحركة الوطنية وفي مقدمهم الزعيم كمال جنبلاط والاستاذ محسن ابرهيم والشهيد جورج حاوي بانهم ينفذون "مؤامرة" على لبنان ستؤدي الى تقسيمه وطنا قوميا مسيحيا سيكون اخطر من اسرائيل، ووطنا قوميا فلسطينيا يُنهي قضية العرب الاولى، ويبقي الفلسطينيين خارج وطنهم، الأمر الذي يرضي الدولة العبرية ويوطد اركانها. وكان سبق الدخول السوري تقسيم للجيش والقيام بانقلاب عسكري في 11 آذار من ذلك العام لاجبار رئيس الجمهورية (سليمان فرنجيه) على الاستقالة.

وقال الاسد يومها ان التقسيم "مؤامرة على الاسلام، ومؤامرة على العروبة ولمصلحة العدو، لمصلحة الصهيونية، ولمصلحة اسرائيل".

واضاف: "العروبة اقوى من هؤلاء المتآمرين. والاسلام اقوى من هؤلاء المتآمرين. ولن يستطيعوا تحت اسم العروبة، وتحت اسم الاسلام، أن يضربوا العروبة، وأن يضربوا الاسلام (...)".

ولفت الى "ان هذه المؤامرة لا تستطيع ان تحقق أهدافها الا من خلال القتال. ولكي نحبط المؤامرة علينا ان نوقف القتال".

والمفارقة هنا ان القتال الذي تحدث عنه الرئيس الاسد تم بسلاح سوري وبذخيرة سورية. وقد إستُعملَ هذا السلاح مع ذخيرته لقتل لبنان الذي قال الاستاذ محسن ابرهيم انه قد جرى تحميله أكثر مما يحمل، وان السلاح قد استعمل خطأ وسيلة للتغيير "الديموقراطي" في لبنان.

وهذا السلاح تحدث عنه الرئيس السوري بصراحة في خطابه، فقال: "قدمنا السلاح من أجل ان نوقف القتال. وقدمنا الذخائر كذلك. وفي وقت من الاوقات كانت موازين القوى (مع الفريق المسيحي) غير متكافئة، ولم يكن في الامكان وقف القتال. ومن أجل هذا اضطررنا الى ان نقدم السلاح والذخائر. قدمنا السلاح الى هؤلاء (كمال جنبلاط ومحسن ابرهيم والآخرون) الذين يهاجموننا ويتنكرون لجهودنا وتضحياتنا (...) قدمنا السلاح والذخائر الى هؤلاء. وفي وقت من الاوقات أخذنا الاسلحة من جنودنا، من تشكيلاتنا، وأعطيناهم إياها" !

وكان استقبل الأسد كمال جنبلاط (قبل الخطاب) بعدما وصلت "القوات المشتركة" اليسارية والفلسطينية والاسلامية الى عينطورة والمتين وهددت كسروان التي طالب جنبلاط بمهلة لاقتحامها واعلانها منطقة مفتوحة بعد فرض الاستسلام على أهلها والقوات المقاومة فيها. فقال له الاسد: "ساعدناكم سياسيا. وساعدناكم عسكريا، أقصد عسكريا بامدادكم بالاسلحة والذخائر، ومع هذا لم تستطيعوا ان تصمدوا".

فماذا حصل بعد ذلك؟

دخل الجيش السوري لبنان وأخضع الفلسطينيين و"القوات المشتركة"، ثم ما لبث هؤلاء ومعهم "الحركة الوطنية" ان أصبحوا خطا واحدا في مواجهة "القوات اللبنانية" التي لجأت الى اسرائيل لمواجهة القوى التي تحدث عنها الرئيس السوري وقال انه سلحها، فاذا بها تخوض غمار "مؤامرة" حقيقية لتمزيق لبنان واقامة دولة فلسطينية فيه بديلة من الدولة المرتجاة في فلسطين التاريخية.

... واستمر التحالف بين قوى "المؤامرة" وسوريا حتى 26 نيسان 2005 تاريخ جلاء القوات السورية عن الاراضي اللبنانية.

ماذا قال ابرهيم في الاحتفال التأبيني الاحد الماضي للشهيد جورج حاوي؟

"ان بعض أخطاء الحركة الوطنية كان قاتلا. اننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيدا في تحميل لبنان من الاعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يتحمّل، طاقة وعدالة وانصافا. واننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الاهلية تحت وهم اختصار الطريق الى التغيير الديموقراطي، فكان ما كان تحت وطأة هذين الخطأين من تداعيات سلبية خطيرة طالت بنية البلد ووجهت ضربة أليمة الى الحركة الوطنية (...)".

وثمة من يرى ان الاعتراف بالخطأ من جانب احد القادة البارزين للحركة الوطنية لتحميل لبنان - وليس اللبنانيين! - ما يفوق طاقته على التحمل والمساهمة في تهديم البلد وقتل عشرات الالوف من اهله، وتشريد مئات الألوف منهم – ان هذا الاعتراف بالخطأ لا يكتمل الا بدخول قادة الفريق الآخر كرسي الاعتراف، وإن في الكنيسة، بعد العفو عن قائد "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع. على ان يكون السؤال الاساسي: هل كان قرار التعامل مع اسرائيل صائباً؟ واستطرادا: هل كان أمام "المقاومة المسيحية" خيار آخر، في ضوء ما ورد في خطاب الرئيس الاسد الشهير وكلامه على "المؤامرة" الحقيقية على لبنان وتزويد سوريا القوات المشتركة الاسلامية واليسارية والفلسطينية السلاح والذخيرة من اجل دحر الجماعات المسيحية التي كانت تقاوم "المؤامرة" الفلسطينية – اليسارية – الاسلامية ؟

ثم ماذا يحول دون تكرار "المؤامرة"، ولجوء مسيحيين الى اسرائيل، ودخول سوريا مجددا على خط التحالف مع القوى التي قاومت دخولها لبنان عام 1976 ثم اصبحت، ويا للاسف، نصيرا لها وخط الدفاع الاول عنها وعن وصايتها على لبنان بأجهزتها المخابراتية، حتى اللحظة الاخيرة قبل ان يدرك شهرزاد السورية القرار 1559؟

ان الاجوبة عن هذه الاسئلة هي المطلوبة حالياً، اذا أردنا حقاً بناء لبنان سيد حر ومستقل عن سوريا واسرائيل، مدركين أن افق العلاقات مع دمشق اوسع من حاجز حدودي. وسنكتشف غداً ان اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان هو الآخر مؤامرة وضربة للبنان وسوريا معاً. وستظهر الايام ذلك، اذا عجز عنه التقرير الدولي. اذ ان اخراج سوريا من لبنان كان عملاً جهنمياً، كما كان رابع المستحيلات لبنانيا واقليميا ودوليا، حتى في نظر اعداء سوريا.

والعنوان الكبير للعبرة من نصف القرن الماضي، يجب ان يكون الآتي: ان استمرار لبنان مرهون بالتضامن بين مسيحييه ومسلميه، وانه لولا تواطؤ فريق من اللبنانيين مع الخارج ضد فريق آخر فيه، لما استطاعت سوريا ان تحكم لبنان، ولما نجحت اسرائيل في اختراق نسيجه وحظيت بالعملاء الذين تتاجر بهم حاليا.

فهل يتعظ اللبنانيون؟

مصادر
النهار (لبنان)