بعد إطلاق مشروع الوثيقة التأسيسية للتجمع الليبرالي الديمقراطي L D U ( عدل ) و بعد الجدل السريع الذي دار حولها ، ثم منع الاجتماع التحضيري الأول وما تبعه من تشويش متعمد وممارسات رخيصة , والتي كلها لم تعق انطلاق المشروع بطرق وأساليب متنوعة ..

بعد كل هذا وبينما تنتشر الوثيقة أفقيا بين الناس ، لا بد من وقفة متأملة ناقدة ، ومن إعادة التفكير في الأسئلة الحقيقية والجدية التي ما يزال يتوجب علينا نقاشها ، والتي طرحت في سياق التحضير السريع لا طلاق مشروع التجمع ، والتي ادعوا أصحاب الأقلام والفكر للمساهمة فيها , عبر نقاش عميق موسع وهادئ على صفحات الانترنت والمجلات .

سوف نكتفي هنا بتلخيص أهم الأسئلة التي ما تزال مطروحة بجدية , والتي ما تزال أجوبتها متباينة , ليس لتباين الآراء في أغلب الأحيان , بل لعدم وضوح التعاريف والمصطلحات ، فالقسم الكبير كما بدا لي من الخلاف سببه اعتماد منظومات لغوية مفهومية متخالفة .. وهذا ما يمكن تذليله . ليبق الخلاف في الآراء قائماً على نقاط معرفية محددة وواضحة ومعبر عنها بنظام لغوي منطقي واضح ومتفق عليه إلى حد ما . فليس المطلوب منا في كل مرة أن نعيد إنتاج المفاهيم ، كما أنه ليس المطلوب فرض تعاربف مؤدلجة ونمطية على لغة المتحاورين .. وهذا بحد ذاته هام ، لأن القسم الأعظم من المحاورين ماركسيين سابقين , ويستخدمون مفاهيم نمّطتها الماركسية في سياق دعايتها الأيديولوجية ، وهو ما يقف وراء فشل التفاهم بينهم وبين الفكر الليبرالي , الذي صار يطرح بوضوح وجدية حديثاً في المجتمعات العربية ، التي بدورها كانت قد غرقت في بحر من اليساروية طيلة نصف قرن وأكثر .

منذ البداية كان الهجوم على الليبرالية يحمل طابعاً أخلا قياً , فالكثيرون يريدون التهجم عليها كما لو أنها الشيطان ، أو بوابته ، كما أن الغالبية تطابق بين الطبقة أو الشريحة المبدعة والظرف التاريخي لنشوء الليبرالية ( من جهة ) وبينها كفلسفة ونتاج فكري معرفي أيديولوجي يمكن استخدامه بطرق وأشكال متعددة ( من جهة أخرى ) . أي تبعاً للظروف والحاجات المتغيرة ،( حيث لولا قدرة البشر هذه على الإفادة من معارفهم وخبراتهم للتعامل مع ظروف متغيرة لما تقدمت الحضارة ). فكل من يعرّف الليبرالية ينطلق من الثورة الصناعية والبرجوازية ، وهذا جيد وضروري لكن في سياق دراسة نشوئها التاريخي ، وليس إعادة تداولها السياسي . فهل تبقى الليبرالية أسيرة ذلك ، وبالتالي لا يصح أن تعمل إلا في تلك الظروف ، وهل هذا ينطبق على كل الأفكار والنظريات ونظم العقل العلمي والتاريخي والاجتماعي السياسي ؟ أي بشكل آخر هل الحامل الاجتماعي لليبرالية واحد في كل زمان ومكان ، فنعترض على أي حامل آخر وجد فيها فلسفة يمكن أن تطور واقعه وتحقق أهدافه ؟ أليس هذا نتيجة للمفهوم الطبقي المدرسي للماركسية السيكولاستيكية؟ .

لذلك يستمر السؤال الأول والأهم ما هي الليبرالية قائماً ؟ لأن البعض يراها فلسفة للحرية ( منظومة فكرية قيمية يمكن التعامل من خلالها مع المعرفة والسلوك ) ومنهم من يراها أيديولوجيا خاصة بشريحة مميزة من البشر ، هدفهم الربح المادي بدون أي قيود واشتراطات ( توحش القوة ) ؟

السؤال الثاني المطروح أيضا وعلى درجة اقل حدة .. ما هي الديمقراطية ؟ هل هي نظام حكم . أم نظام معرفة وقيم واجتماع .. هنا أيضاً يمزج الكثيرون بين النظام السياسي الديمقراطي ، وبين ما يسمونه الفلسفة الديمقراطية .. والتي هي صورة عن فلسفة الحرية لكنهم يسمونها بأسماء مختلفة ( منها الديمقراطية المجتمعية أو الثقافية أو ثقافة الديمقراطية .. ؟ )
وبالتالي يمكن بعد ذلك توضيح العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية ، فإذا كانت الليبرالية هي الفلسفة ، وكانت الديمقراطية هي النظام السياسي الناتج عنها , فهنا لا بد من مطابقتهما وترابطهما . أما إذا كانت الديمقراطية فلسفة ونظام معاً ، فهنا تكون الليبرالية مجرد أيديولوجيا للطبقة التي تريد أكل المجتمع تحت مبرر الحرية ، لأنها تمتلك القوة القادرة على تجيير آلية السوق لصالحها بالمطلق . وهنا لا بد من تحرير الديمقراطية من الليبرالية لكي لا تكون بوابة لحرمان البشر من حقوقهم ووسائل عيشهم .
السؤال الثالث هل يمكن لليبرالية أن تطرح نظام ضمان يحقق ويطبق الغايات الأخلاقية التي ترمي إليها الفلسفة الاجتماعية . وهل يمكن لليبرالية أن تفعل ذلك من دون الديمقراطية الحقيقية التي تؤمن تداول السلطة والثروة ، وهنا يطرح مفهوم تداول الثروة بشكل جدي في الفلسفات الليبرالية الجديدة ، بحيث يعبر عن سرعة وحجم الحراك الاجتماعي بين الطبقات ( فيصبح الصراع الطبقي غير مرتبط بمجموعات بشرية محددة ، وغير موروث من الآباء نحو الأبناء ، بل مجرد تباين مؤقت ومشروط في الموقع من الثروة والملكية ، في مناخ يوجد فيه الكثير من الوسائل المتوفرة للفرد ، والتي يمكنها تغيير انتماءه الطبقي ) .

ثم هل يمكن للفلسفة الاجتماعية أن تحقق غاياتها النظرية والأخلاقية ، أم تبقى مجرد دعوة تمتلك الأداة الخاطئة ، وهل يمكن للاجتماعية أن تتزاوج مع الديمقراطية التي تعتبر الحرية شرطا من شروطها.. ما هي النماذج التطبيقية للاجتماعية والليبرالية ، وهل يوجد نظام ليبرالي حقق مستوى ضمان اجتماعي لائق بكرامة الإنسان في دول العالم الثالث ، وهل يوجد نظام اجتماعي حقق درجة مقبولة من الحرية وأمّن مستوى معيشة مقبول في كل العالم ؟ .

أي هل التطبيق العملي ضروري للحكم على النظريات ؟ أم أننا يجب أن نبقى في الأحلام نرسم اليوتوبيا الاجتماعية أو الليبرالية ؟.
السؤال الرابع المطروح ما هي العلمانية ؟ وهل هي نتاج حتمي وملزم لليبرالية ، وشرطاً من شروط الديمقراطية , التي تعطي كامل سلطة التشريع والتنفيذ للشعب وحده وبكامل حريته ، أي بتجرد عن سلطة رجال الدين . وهل العلمانية في هكذا تعريف تتناقض مع الدين ، أم أن الجانب المتواجد في الدين والذي يناقض الديمقراطية هو السبب في هذا الإشكال ، لأنه يريد تجاوز الديمقراطية وتشويهها عبر الدمج بين العلمانية والإلحاد وإنكار الدين ، وبالتالي يطالب بإقصائها عن الثالوث : علمانية ديمقراطية ليبرالية ( عدل ) وهو في هذا يجد المبرر فعلاً في التناقض الشكلي السائد بين الحاكمية لله والحاكمية للشعب . وهل حل هذا الإشكال سهل وممكن دون أن يدمر احدهما الآخر ( اقصد الدين والديمقراطية ) وبالتالي كيف نفهم العلمانية كشيء غير مناقض للدين إذا ؟؟.. هنا لا بد من إعادة تفكير معمقة في مفاهيم وعقل الدين والنص الديني ، لكي نرى هل هناك حقيقة تناقض بين العلمانية كشرط للديمقراطية ، وبين الدين؟

سوف نحاول تباعاً الإجابة على بعض هذه الأسئلة ونتأمل المشاركة والمساهمة والنقد والتصحيح وصولاً نحو ازدهار الفكر السياسي العربي العملاني ( الذي يعمل في أرض الواقع ) و الذي يعاني من تخلف بنيوي مذري يعبر عن ، ويعيد إنتاج ، واقع سياسي واجتماعي أكثر بؤساً .. تحية لكم جميعاً وبانتظار أرائكم ، لكن بهدوء و من دون مواقف محكومة بالصراع المؤدلج ، فكل منا بحاجة للمعرفة والحقيقة ليعيد تطوير أيديولوجيته ومواقفه . .

مصادر
مرآة سوريا (سوريا)