في خضم الاجراءات الرسمية السورية ازاء لبنان وسائقي شاحناته وصياديه وخبرائه والانتقادات الاعلامية لبعض سياسييه، فان اكثر ما يقلق على المدى الطويل هو ذاك الفرح او التأييد الذي تعبر عنه شريحة واسعة من السوريين:

من العمال الى رجال الاعمال، ومن»البعثيين» الى اليساريين والليبراليينو ومن ابناء الريف الى الحضر، ومن العسكر الى المدنيين. بل ان هذه الخطوة حظيت بتأييد المجتمعين الاقتصاديين في حلب ودمشق، اللذين نادرا ما يتفقان تاريخيا على أمر واحد.

وكان هناك صمت كبير من قبل السياسيين السوريين، باستثناء البيان الذي صدر عن «التجمع الوطني الديمقراطي» المعارض وبعض الدردشات في الصالونات المغلقة من قبل «معارضين» واعضاء في المجتمع الاقتصادي والثقافي.

المقلق هو تنامي الشعور بالثأر لدى شريحة من السوريين تجاه المعاناة الاقتصادية اللبنانية، التي اصابت هذه المرة الشريحة الفقيرة والعمال والمزارعين من اللبنانيين. هذه الشريحة التي بقيت اما حيادية او متعاطفة مع سورية في خضم الانتقادات السياسية التي ظهرت من النخبة اللبنانية المعارضة. ويكشف هذا الرضا الشعبي على هذه الخطوة الرسمية، حجم الخسارة التي لحقت بسورية ومدى اتساع الشريحة المتضررة بفعل الانسحاب العسكري والامني تطبيقا للقرار 1559.

بلغة الارقام، عنى هذا الانسحاب عودة 14 الف جندي سوري ورجوع عدد كبير من العمال الذين كان عددهم نحو مليون شخص. ويضاف الى ذلك الاف سائقي السيارات العامة وعشرات الالاف من اصحاب المحلات التجارية في دمشق وريفها الذين كانوا يستفيدون من قدوم العائلات اللبنانية في عطلة نهاية الاسبوع لشراء منتجات رخيصة. واذا علمنا ان المعدل الوسطي للاسرة السورية هو ستة اشخاص، يمكن تقدير الاثر الاقتصادي الذي تركه الانسحاب السوري وانكفاء العلاقات بين الشعبين على جانبي الحدود واغلاق بوابات تهريب البضائع الاجنبية من لبنان الى سورية.

وما يفسر وجود هذا الشعور لدى مجتمع الاعمال، هو تأخر التحويلات السورية في المصارف اللبنانية، علما ان رئيس اتحاد غرف التجارة راتب الشلاح قدر الودائع السورية فيها بنحو عشرة بلايين دولار اميركي. وبمجرد حصول الانسحاب الامني والعسكري السوري، خرج قسم كبير من هذه الودائع الى المصارف الاماراتية والاردنية والتركية والقبرصية، الامر الذي عرقل واخر العمليات المصرفية في ضوء عدم وجود قطاع مصرفي سوري خاص قوي وفرض الولايات المتحدة الاميركية عقوبات اقتصادية على سورية.

هذا من ناحية براغماتية، اما من ناحية عاطفية، فان ما الهب العواطف الشعبية سقوط عدد من القتلي والجرحى. اذ قالت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل ديالا حج عارف ان تسعة على الاقل من الـ37 ضحية «سقطوا باعتداءات مقصودة وموثقة»، اضافة الى ان «ابطال ثورة الارز» وجهوا «الكثير من الاهانات الى الشعب السوري» والحقوا كل الممارسات الفردية والرسمية بهذا الشعب بطريقة فيها الكثير من النقمة والفوقية والسذاجة في النظر الى العلاقات بين دمشق وبيروت.

كانت بشائر الدعوات السورية لـ»معاقبة» اللبنانيين ظهرت قبل حصول الانسحاب في نيسان (ابريل) عندما رفعت مذكرة من غرفة تجارة مدينة حمص (وسط البلاد) الى الحكومة تطالب بسحب الودائع من المصارف اللبنانية، كما ان اخرين بدأوا برسم سيناريوهات «محاسبة لبنان». وقتذاك، لم يكن هناك قرار بتصعيد التوتر الاعلامي والسياسي مع لبنان الى حد ان «تعميما» صدر بعدم اثارة قضية الضحايا السوريين تجنبا لمزيد من «التأزم».

من وجهة نظر دمشق، توافرت في الاسابيع الاخيرة الظروف السياسية المناسبة: استمرار الصعوبات الاميركية في العراق، فوز المحافظ محمود احمدي نجاد بالانتخابات الايرانية، ورغبة واشنطن في تمرير مشروع الانسحاب الاسرائيلي من غزة، واستمرار الانتقادات اللبنانية والاتهام بوجود امني سوري في لبنان وعدم حصول سورية على أي «تقدير» لانسحابها العاجل امنيا وعسكريا في 26 نيسان (ابريل) الماضي. واستنادا الى القراءة السورية لهذه التطورات، بدأت الخطوات: اغلاق الحدود البرية بفرض اجراءات امنية وجمركية صارمة على الشاحنات العابرة للترانزيت، اعتقال تسعة صيادين في المياه الاقليمية ثم الافراج عنهم، وقف امدادات الغاز الى محطة كهرباء في لبنان، اثارة موضوع العمال السوريين القتلى، ثم ابعاد العمال اللبنانيين الذين لا يحملون تصاريح عمل رسمية.

السبب المعلن من قبل دمشق، كان ضرورة تدقيق السيارات العابرة في الاتجاهين لمنع حصول أي اختراق امني بعد ضبط مجموعة متطرفة كانت تنوي التسلل الى لبنان وضبط ثلاث سيارات تحمل متفجرات واسلحة تضم 350 كيلوغراماً من «تي ان تي»، اضافة الى ورود «معلومات موثقة» الى دمشق عن اجتماع شخصيات محسوبة على «الاخوان المسلمين» في شمال لبنان، بحسب اعلان مصادر سورية.

ربما لا يبدو هذا السبب مقنعا كثيرا. لكن الوزير فاروق الشرع يشرح التفكير السوري، قائلا:» موضوع الشاحنات موضوع امني لكن لا يوجد في العالم شيء بمعزل على السياسة. الاطمئنان الامني يعني الاطمئنان السياسي، وهو يعني تنقل البضائع والافراد بسهولة».

اذن، ما تريده دمشق من خلال اظهار «الادلة» عن المميزات التي كانت تقدمها الى بيروت: اولا، الرغبة في اعادة تعريف العلاقة مع لبنان. ثانيا، تلمس الحدود التي يمكن ان تذهب فيها في التصعيد مع لبنان ومعرفة حدود علاقتها الجديدة مع الجار الصغير. ثالثا، مساعدة حلفائها في لبنان سواء الرئيس اميل لحود او «حزب الله». رابعا، التأثير في التشكيلة الحكومية كي لا تكون شديدة العداء لدمشق. خامسا، دفع الحكومة والسياسيين في لبنان الى العقلنة السياسية في النظر الى علاقتهم مع سورية والانتقال من المثالية والخطابية الى الواقع والمصالح المشتركة. أي، قدوم الرئيس فؤاد السنيورة الى دمشق للبحث «في المصالح الاستراتيجية لتشمل الامن والسياسة الخارجية وان لا تقتصر على الشؤون الاقتصادية»، طالما ان دمشق «ليست جمعية خيرية» كما قال الرئيس بشار الاسد.

سادسا، بعد المؤتمر العاشر لحزب «البعث» الحاكم، بدأت الحكومة تعاطيا جديدا في ثلاثة ملفات: العراق، فلسطين، الارهاب. ومقابل الاعتدال الذي اظهرته دمشق في علاقتها مع الموضوع العراقي باعلانها استئناف العلاقات الدبلوماسية واعتقال وتوقيف 5300 متطرف سوري وعربي (بينهم 1240 عربيا سلموا الى بلادهم و9 قيد التحقيق) حاولوا السفر الى العراق لقتال الاميركيين، واستقبالها الرئيس محمود عباس (ابو مازن) ودعم التهدئة الفلسطينية - الاسرائيلية، و»التشدد» ضد الاسلاميين المتطرفين في سورية، كان لابد للسلطات السورية ان تقدم على خطوة شعبية، تتمثل بالتصعيد مع لبنان.

للوهلة الاولى، هناك من يرى ان دمشق حققت اغراضها من التصعيد: الرئيس لحود بقي في الحكم، وزيارة وزيرة الخارجية الاميركي كوندوليزا رايس له. هناك من يقول ان لقاء رايس مع لحود استهدف «توريط» اكبر حلفاء دمشق في «المشروع الاميركي للبنان» الى حين انتهاء ولايته، لكن في امكان دمشق وضع هذا اللقاء في خانتها، باعتبار ان رايس لم تستطع تجاهله في الزيارة التي تمت بعيدا من البوابة السورية.

كما ان «حزب الله» ادخل الى حكومة السنيورة، مع بعض الاشارات الدولية في التعامل السياسي مع «حزب الله» والقبول بالتدرجية في نزع السلاح عبر الموازنة بين الانخراط السياسي وفي الجيش والتخلي عن السلاح، اضافة الى «اعتدال» البيان الوزاري لحكومة السنيورة وقيامه بزيارة دمشق في اول اطلالة خارجية بعد نيل حكومته ثقة البرلمان.

من وجهة نظر دمشق، تستحق هذه «الانجازات» هذا التصعيد - التذكير، باعتبار انها متمسكة بـ «حزب الله» وحلفائه وخصوصا راعيه الرئيس لحود. وخير مثال للدلالة الى ذلك قول رئيس الوزراء السوري محمد ناجي عطري ان نزع سلاح هذه المنظمة «يهدد الامن القومي لسورية»، في ظل ميل التوازن العسكري التقليدي لصالح اسرائيل.

ما يهدد هذه الانجازات السياسية على المدى الطويل، ان تكون مستندة الى قراءة خاطئة للنيات الاميركية - الاوروبية تجاه سورية ولبنان والعراق.

صحيح ان الاولوية بالنسبة الى الاميركيين هي العراق. وصحيح ان ادارة جورج بوش تواجه صعوبات كبيرة فيه. وصحيح ان الانتخابات الايرانية جددت شباب «الثورة الاسلامية» بفوز احمدي نجاد. وصحيح ان لندن وواشنطن «تراقبان بايجابية» التعاطي السوري الجديد مع ملفات: العراق، السلطة الوطنية، مكافحة الارهاب، وتبديات «بعض المرونة» عبر التلميح الى استئناف التعاون الامني-العسكري. لكن، الصحيح ايضا ان زمن «المقايضة: خذ واعط» انتهى منذ هجمات 11/9 وتحول اميركا الى دولة اقليمية باحتلالها العراق، وان هناك اولويات دولية متعددة وليس اولوية واحدة وان موضوع لبنان - سورية تحت «المجهر الدولي» وان هناك من يريد ابقاء «العصا» للاستمرار في الضغط على دمشق بعد نفاد ذخيرة القرار 1559. ومن يريد ابقاء «الحلف» الاميركي - الاوروبي، الذي مثل لبنان جسرا اساسيا فيه بعد الفجوة التي احدثتها الحرب على العراق.

لكن الاهم، ان هذه الخطوة السورية المدعومة شعبيا ستحفر طويلا في الذاكرة الشعبية اللبنانية، مثلما ادى «عدم الوفاء» و»نكران الجميل» اللبنانيان الى «غصة» سورية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)