عندما أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش «الحرب الكونية على الإرهاب» بدا انه فعل ذلك تحت تأثير الصدمة التي أحدثتها تفجيرات 11 سبتمبر. إلا انه مضى من خطاب إلى خطاب يكرر هذه المقولة رافعا إياها إلى مستوى «العقيدة الجديدة» للسياسة الخارجية والعسكرية الأميركية حتى وصل به الأمر في بداية ولايته الثانية، إلى حد وضع هدف «سام» لمهمة أميركا في العالم: إنهاء الطغيان.

لم يتجاوب كثيرون، في الولايات المتحدة والعالم، مع هذا المفهوم الجديد، فالواقعيون في واشنطن اعتبروه تحميلا لبلادهم فوق ما يحتمل. و» الأمميون المثاليون» قالوا ان للولايات المتحدة مهمات عالمية أخرى. و«الانعزاليون» أكدوا أن لا خطر وجوديا على الأمة فلا مبرر بالتالي، لحروب التدخل.

و«الوطنيون التقليديون» اعتبروه مجرد يافطة من اجل توسيع النفوذ الأميركي وترسيخ المصالح الإستراتيجية. وحدهم «المحافظون الجدد» ومعهم جناح ضعيف من التيار الليبرالي اعتنقوا الفكرة وروجوا لها ووضعوا كتبا في شرحها، واشتفوا تعابيرموازية لها قد يكون أهمها ما سماه نورمان بودوريتز: الحرب العالمية الرابعة.

تعرضت النظرية إلى انتقادات كثيرة ضمن العالم الغربي ويمكن إجمال هذه الانتقادات في المحاور التالية:

أولاً:لا مجال لحرب ضد «الإرهاب» لان الإرهاب مجرد وسيلة تلجأ إليها دولة أو منظمة ولم يسبق أن شنت حرب على وسيلة.

ثانياً: الإرهاب ظاهرة تعبر عن واقع شديد التعقيد. وهو وان كان مدانا فان مواجهته، لا يمكن لها أن تقتصر على «الحرب». لا بد من التمييز بين حالة وحالة. ولا بد من اللجوء إلى أساليب وقاية. ولا بد من الانصراف إلى مواجهة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوطنية الكامنة وراء استخدام العنف بهذه الطريقة.

ثالثاً: لقد أثبتت التجارب الماضية، في دول تعرضت إلى عمليات، ان المكافحة تكون أجدى بتطوير الوسائل الاستخبارية وبتعزيز الترسانة القانونية، وبالتركيز قدر الإمكان على العمل المشترك، وبالاحتماء وراء الشرعية الدولية.

رابعاً: لن يصل العالم إلى لحظة قريبة يمكن الزعم معها ان الإرهاب هزم. ويعني ذلك ان الحرب التي يريدها بوش هي حرب أزلية لا تلوح نهاية لها في الأفق ويستحيل تحديد معايير الانتصار فيها.

خامساً: يخشى أن تتحول هذه الحرب إلى صدام حضارات بما يلبي الرغبات الفعلية لأجنحة يمينية متعصبة في الغرب ولراديكاليين أصوليين. أن أحدا لا يملك جوابا أو حلا لنزاع من هذا النوع وبهذا الحجم.

سادسا: ان الاعتقاد الجدي بان الحالة حالة حرب يستوجب اتخاذ عدد من الإجراءات والتدابير التي تهدد نمط الحياة الغربية في حين أن الأهداف المزعومة المنسوبة إلى الإرهابيين هي بالضبط رغبتهم في فعل ذلك.

يصعب حصر الكتب والدراسات والمقالات التي ساجلت ضد نظرية بوش ومن تولى الترويج عنه. ويمكن القول بلا مبالغة ان بعض المساجلين الأميركيين اتهموا في وطنيتهم، وجرى التشكيك في ولائهم، وقيل عنه انه متواطئ موضوعيا مع أعداء الأمة.

وفي عودة إلى المناظرات التي صاحبت الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة في أميركا، ومع أن جون كيري لم يميز نفسه كفاية عن بوش فان ما نلاحظه ان المرشح الديمقراطي وهو احد أبطال حرب فيتنام تعرض إلى هجوم شنيع لمجرد انه حاول اقتراح صياغات أخرى أكثر موضوعية للمواجهات المندلعة في العالم.

فعندما صرح مرة انه يجب اختبار رد الفعل الأميركي على محك المؤسسات الدولية من دون أن يلغي ذلك حق الولايات المتحدة في الدفاع عن نفسها كادت الاتهامات تصفه بأنه يريد إركاع بلاده أمام «البربرية البن لادنية» لم تكن البيئة الأميركية صالحة فعليا لأي نقاش يمكن ان يترك تأثيرا على مستوى القرار السياسي. وهكذا نجحت الإدارة غير مرة في تقديم مبررات جديدة للحرب بعد اتضاح الزيف في ما سبقها، من غير ان تخضع لمساءلة.

بكلام آخر كان التفاؤل حاجزا دون الوعي، فالتجربة الأفغانية ناجحة بالرغم من الثغرات البسيطة. والمغامرة العراقية في اتجاهها نحو النجاح وليبيا تسلم أسلحتها ودول تقدم على إصلاحات... لقد كان يجب ان يتضح التعثر وان يحل قدر من التشاؤم حتى يصبح ممكنا التدقيق في مفهوم «الحرب الكونية على الإرهاب» الذي أريد له ان يكون المفهوم الناظم الوحيد للعلاقات الدولية كلها.

كان من الطبيعي أن يبادر المشككون أصلا إلى الاستفادة من المناخ الجديد. غير ان المفاجأة جاءت من ان هناك في الإدارة، من شرع يعيد النظر في معتقداته. وقد حصل ذلك منذ أشهر إلا انه خرج إلى العلن في الأسابيع الأخيرة. ويجدر القول ان إعادة النظر المفهومية هذه جاءت بعد اتضاح الحدود التي يمكن لما يسمى «الدبلوماسية العامة» ان تحدثها في الوعي الكوني للسياسة الأميركية.

فلقد راهنت واشنطن لمدة طويلة على ان سياحتها أي بضاعتها ممتازة وان ثمة مشكلة في التسويق فقط وبذلت محاولات حثيثة في ظل الإدارة السابقة من اجل تحسين «الصورة». إلا ان النتائج كانت تكرر نفسها وتؤكد ان المشكلة في السلع وليس في الإعلان عنها.

وقد كشفت الصحف الأميركية، وهنا المفارقة ان وزارة الدفاع وتحت إشراف رونالد رامسفيلد هي التي بادرت إلى تعريض مصطلح «الحرب على الإرهاب» للامتحان وخلصت إلى اقتراح استخدام مصطلح آخر: «الصراع الشامل ضد التطرف العنيف».

ولقد تعمد رامسفيلد نفسه التركيز على المصطلح الجديد وتبعه تيار القادة العسكريين الأميركيين كما فعل الشيء نفسه مستشار الأمن القومي الجديد ستيفن هادلي واستندت هذه الانعطافة إلى عدد من الدراسات والتحقيقات التي أنجزتها لجان مستقلة في الكونغرس وخلصت كلها تقريبا إلى اقتراح مقاربة معقدة لظاهرة معقدة.

وإذا جاز تلخيص الوجهة الجديدة أمكن القول ان العدو لم يعد معروفاً بصفته «وسيلة» أو «تكتيكا» أو «أسلوب عمل» بل بصفته «فكرة» و«ايديولوجيا» و«منظومة مفاهيم». ان العدو هو «التطرف» و«التطرف العنيف» بشكل أخص والقصد هو الإشارة إلى «الأصولية الجهادية» أو «الفاشية الإسلامية» أو «السلفية المقاتلة».

مع بدء اتضاح التغيير في تعريف العدو انطلقت الرهانات في أميركا عما إذا كانت الإدارة تنوي إدخال تعديل على سياستها: اللجوء إلى وسائل عسكرية، إشراك من يريد من الحلفاء، التركيز أكثر على السياسة والدبلوماسية والإعلام، التشكيك في فعالية العمل العسكري الحصري، فتح حوار مع الحركات الأصولية غير المتطرفة واللاعنيفة، إعطاء دور كبير للعالم الإسلامي وعبر الحوار معه من أجل تطويق الظاهرة.

بكلام آخر هناك من رأى في تغيير الصياغة مقدمة لتغيير السياسة. وتأكد ان ثمة وثائق رسمية تدعو إلى ذلك وتمهد لانعطافات قد تحصل في العراق أو غيره. لكن اللافت ان بوش وحده رفض اعتماد اللغة الجديدة لا بل تعمد في خطاباته الأخيرة الإكثار من ترداد كلمتي «حرب» و«إرهاب». ووصل الأمر بالبيت الأبيض حد توزيع كلام منسوب إلى رامسفيلد يوحي بأن لا تغيير لا في المفاهيم، ولا المصطلحات، ولا السياسات.

هل كانت «حرب المصطلحات» غمامة صيف إذن مرت فوق واشنطن؟ من المشكوك فيه أن يكون الأمر كذلك. فالدواعي الضاغطة إلى مثل هذا التحول، ولو البسيط، ازدادت وزنا. وليس من المستبعد أن نشهد إعادة تصويب لبعض السياسات من دون أن يترافق ذلك مع أي إقرار بأخطاء سابقة

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)