منذ اللحظة التي اشتعلت فيها أزمة العلاقات السورية – الأمريكية اجتاح الإعلام موجة من "المقاربات"، تبدو فيها سورية وكأنها لون واحد وخيار واحد. ورغم الإقرار بأن الوعي الاجتماعي هو "وعي مقارن"، لكن ما حدث خلال السنوات الأربع الماضية شكل ظاهرة مرضية، حيث طالت المقاربات النظام السياسي والمعارضة وجهاز الدولة وحتى بنية المجتمع.

وبالطبع فإن مقاربة الماضي بالحاضر لم تنطلق من محاولات تفكيك الأزمة، بل من إقرار أن "الزمن السوري" انتهى بعد سلسلة من الأحداث كان أخرها الاحتلال الأمريكي للعراق. فالهوس في مقارنة الآليات السياسية بين الماضي والحاضر مع النظر إلى الظرف الدولي والإقليمي تبدو أحيانا وكأنها نهاية، وليس بداية لزمن جديد.

الاختصار الذي نشهده في هذه التحليلات، أو حتى التصريحات السياسية، يبدو وكأنه محاولة لإعفائنا من مهمة التفكير أو الإبداع، وهو في نفس الوقت يملك أغراضا اجتماعية أكثر منها سياسية، لأنه يهدف في النهاية إلى الانعتاق من المراحل التي واكبتنا بعد الاستقلال وصولا إلى اعتبار أن الأحلام والطموح كانا سبب الأزمة. وأن الحدث في النهاية لم يكن سوى النتيجة المرضية لعدم التعامل "بواقعية" مع تطورات الحدث.

لكن السؤال الذي يواجهنا وسط زخم هذه التحليلات: كيف نعيد ترتيب الوقائع؟ وهل هناك بالفعل أطراف سياسية واجتماعية تبدل مواقعها؟ هذا السؤال يبدو خارجا عن إطار التحليلات، لن هدفها الأساسي التركيز على المقاربات والمقارنات المستندة أساسا إلى "عملية" تفكير محددة، وليس لبحث علمي يحاول قراءة ما حدث عبر نصف قرن من الزمن. والعمليات الفكرية المجردة قادرة على الوصول إلى استنتاجات لا تخرج عن إطار العقل، ولا تدخل إلى العمق الاجتماعي.

ما نواجهه اليوم هو محاولة اقناعنا بأن الزمن التغير وهذا أمر لسنا بحاجة لتحليل كي ندركه .. ومحاولات لإقناعنا بأن الماضي احتوى أخطاء وصلت إلى مرتبة الخطايا، وهذا الموضوع يمكن تلمسه دون الرجوع إلى التحليل والتفكيك والتذكير بالحدث السياسي .. والأهم اقناعنا بأننا اليوم قادرون على إعادة الاعتبار للهدوء والسكينة وعدم معاكسة الواقع!!!

اعتبار أن "الزمن السوري" انتهى ليس هجوما على سلطة سياسية أو حزب حاكم أو مرحلة سياسية معينة، بل هو هجوم على العقل والمجتمع في آن ... وهو محاولة نحو الأجيال الجديدة كي تجد أنه من الأسلم التعامل مع المكون السياسي والثقافي كعامل حيادي، وبالتالي فإن الخروج من الحياة العامة هو الصورة الأسلم.

المقارنات والمقاربات تنسف أحيانا نتائج المراحل السابقة ... وهي في النهاية تريد أن نشكل ذاكرتنا من جديد، وأن نضع حدودا لأحلامنا ... ثم نضع حدودا لثقافتنا ... ثم ننتهي عند الماضي .. مهما كانت طبيعة كتاب هذه المقاربات، وحتى لو استخدموا أكثر الأدوات حداثة.